الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ثروات السـادة الرؤساء

ثروات السـادة الرؤساء

ثروات السـادة الرؤساء

كانت فاجعة البعض المتابعين للثورات، وما نتج عنها من كشف لهول مقدار ثروات بعض الرؤساء وقيمة ممتلكاتهم، حتى كأنك تحس من تضخم هذه الثروات أنهم كانوا في هذا المكان فقط ليجمعوا الأموال ويكدسوا المقتنيات ويتسابقوا أيهم أكثر رصا للأصفار أمام الأرقام.

وحين يقارن الإنسان حال هؤلاء وثرواتهم بحال الخلفاء الراشدين أو الأمراء المتقين وكيف أنهم خرجوا من الدنيا وهم لا يملكون من حطامها إلا النذر اليسير أو ما لا يصلح معه أن يقال أنهم يملكون شيئا أصلا. مما يجعل العجب يتملك كل ذي عقل، خصوصا وأن الأولين كانوا يبسطون نفوذهم ويحكمون بلادا وإمبراطوريات شاسعة لا تمثل رئاسات اليوم شيئا فيها، ومع ذلك زهدوا فيها و رغبوا عنها.
وفي الوقت الذي أطلق هؤلاء لزوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم ومحاسيبهم العنان وفتحوا لهم أبواب النهب والسلب والكسب الحرام (حاشا) بل لم يكن هناك كسب أصلا أو غالبا، وإنما مكتسبات وبسط نفوذ ووضع يد، ومنح ممن بيده ملك البلاد..
في نفس الوقت الذي يفعل فيه هؤلاء هذا نجد أولئك (أعني أئمة العدل وأهل التقى) يقبضون أيديهم ويمسكون أيدي أبنائهم ويضربون على أيدي أقاربهم وأما المحاسيب فلم تكن حاشيتهم إلا أهل الورع والدين.
يروي صاحب كنز العمال وابن سعد في طبقاته كما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن أبا بكر الصديق لما حضرته الوفاة دعا ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقال لها: إني قد كنت نحلتك حائطا (أعطاها حديقة من ماله هدية دون بقية إخوانها) وإن في نفسي منه شيئا فرديه إلى الميراث، قالت : نعم ، فرددته..
ثم قال أبو بكر رضي الله عنه: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فئ المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن، ففعلتُ، فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض وجعل يقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده! رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده!
ثم قال عمر: يا غلام! ارفعهن، فقال عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبي بكر عبدا حبشيا وبعيرًا ناضحا وجرد قطيفة ثمنه خمسة دراهم؟ قال : فما تأمر؟ قال: تردهن على عياله، فقال: لا والذي بعث محمدًا بالحق!، أو كما حلف، لا يكون هذا في ولايتي أبدا، ولا يخرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله، الموت أقرب من ذلك.
عمر بن الخطاب على الطريق:
وأما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فينبيك عن حاله فعالُه؛ فقد تورع عن مال المسلمين من البداية وما ولغ فيه، بل اعتبر المسلمين كاليتامى ونفسَه كالقائم على أموالهم، كما جاء في سيرة عمر للصلابي قال: لما ولي عمر بن الخطاب أمْرَ المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا، لا يأكل من بيت المال شيئًا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، ولم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك.
وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف.
ولقد وفى عمر بهذا الذي أخذه على نفسه وضيق على نفسه في عيشته فكان طعامه أشد ما يكون حتى قرقر بطنه يوما فضربه بيديه وقال: اصبر فوالله ما عندي إلا ما ترى حتى تلحق بالله... ولقد بلغ من العيش وشدته ما جعل ابنته حفصة أم المؤمنين تقول له: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ لَبِسْتَ ثَوْبًا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ ثَوْبِكَ وَأَكَلْتَ طَعَامًا هُوَ أَطْيَبُ مِنْ طَعَامِكَ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرِّزْقِ وَأَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ"، قَالَ: إِنِّي سَأَخْصِمُكِ إِلَى نَفْسِكِ، أَمَا تَذْكُرِينَ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ "فَمَا زَالَ يُذَكِّرُهَا حَتَّى أَبْكَاهَا، فَقَالَ لَهَا: "إِنْ قُلْتُ لَكِ ذَاكَ إِنِّي وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَطَعْتُ لأُشَارِكَنَّهُمَا (يعني صاحبيه رسول الله وأبا بكر) بِمِثْلِ عَيْشِهِمَا الشَّدِيدِ لِعَلِّي أُدْرِكُ مَعَهُمَا عَيْشَهُمَا الرَّخَيَّ".
لقد كان عمر أعلم بالطعام من بعض آكليه ولكنه تركه مخافة يوم الدين كما قال رحمه الله: "لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِلِينِ الطَّعَامِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَكَلَتِهِ ، وَلَكِنَّا نَدَعُهُ لِيَوْمٍ (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا) سورة الحج آية 2 " ، قَالَ أَبُو عِمْرَانَ : وَاللَّهِ مَا كَانَ يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ هُوَ وَأَهْلُهُ إِلا تَقَوُّتًا .
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن عمر خطب الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة إحداهن بأدم (جلد) أحمر.. وأبطأ على الناس في يوم جمعة ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا ـ كان يغسل ولم يكن لي ثوب غيره.
هذا أمير المؤمنين الذي كان يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحته رداء كأنه أدنى الرعية أو من عامة الناس.
لقد بُسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده، وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرفت لها عينه، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته في إعزاز دين الله، وتخضيد شوكة المشركين، فرضي الله عن عمر.
وعمر بن عبدالعزيز في الركب:
وسار الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز على طريق القوم وسلك سبيلهم، فعندما تولى الخلافة كان أول ما بدأ به رد المظالم وبدأ بنفسه وأهل بيته ليكون قدوة وقال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي، فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه وأعاده كله إلى بيت المال حتى نظر إلى فص خاتم كان في يده فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه.. حتى بلغ من شدة حرصه أنه نزع حلي سيفه من الفضة وحلاه بالحديد.

لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد أفغرت أفواه ولدك من هذا المال، فلو أوصيت بهم إليَ وإلى نظرائي من قومك فكفوك مؤونتهم، فلما سمع مقالته: قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك: إني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم ولم أكن لأعطيهم شيئاً لغيرهم، وأما ما قلت في الوصية فإن وصيتي فيهم: ((إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)) (الأعراف، الآية: 196). وإنما ولد عمر بين أحد رجلين: إما صالح فسيغنيه الله، وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله ادع لي بني، فأتوه فلما رآهم ترقرقت عيناه، وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم ـ وبكى ـ: يا بني إني قد تركت لكم خيراً كثيراً، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً.. يا بني إني قد خيرت بين أمرين: إما أن تستغنوا وأدخل النار، أو تفتقروا إلى أخر يوم الأبد وأدخل الجنة، فاخترت أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي، قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله.
وأما تركته رضي الله عنه فقد قال ابن الجوزي: بلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكرالصديق- رضي الله عنه-: عظني. قال: مات عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- وخلف أحد عشرابنًا، وبلغت تركته سبعة عشر دينارًا كُفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبرهديناران وقُسِّم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهمًا، وماتهشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابنًا فقسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف،ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يومٍ واحد على مائةِ فرس في سبيلالله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يُتصدق عليه.
لماذا عفوا وولغ الآخرون:
لا شك أن الإنسان يصيبه العجب من البون الشاسع بين الفريقين ولكن سرعان ما يزول العجب حين يقف على مقصد الفريقين وعقيدة الطرفين وحال الطائفتين والتي يلخصها كلمتان واحدة لعمر بن عبد العزيز وأخرى لجده عمر بن الخطاب:
أما عمر بن عبد العزيز فقد جاء في تاريخ دمشق لابن عساكر وكتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير والبداية والنهاية لابن كثير: عن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت على عمر فإذا هو جالس في مصلاه معتمدا يده على خده، سائلة دموعه على لحيته فقلت يا أمير المؤمنين الشئ حدث قال يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحمرها وأسودها، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والغازي المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت.
وأما جده عمر بن الخطاب رضي الله فقد جاء في مناقب عمر لابن الجوزي: عن بشر بن عبد الله أن عمر قال لحذيفة رضي الله عنهما: نشدتك الله، كيف تراني؟ قال: ما علمت إلا خيرا! فنشده الله، فقال: إن أخذت مال الله فقسمته في ذات الله فأنت أنت، وإلا فلا.. فقال (عمر): والله إن الله ليعلم ما آخذ إلا حصتي، ولا آكل إلا وجبتي ولا ألبس إلا حلتي.
وخلاصة القول ما قاله عمر رضي الله عنه: من خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله تعالى لم يضيع ما يريد، ولولا (خوف) يوم القيامة لكان غير ما ترون.
يارب هيئ لنا من مثلهم نفرا .. .. يشيدون لنا مجدا أضعناه

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد