الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مثل نوره كمشكاة فيها مصباح

مثل نوره كمشكاة فيها مصباح

مثل نوره كمشكاة فيها مصباح

الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المعاني المحسوسة، وتقرب المفاهيم غير المحدودة من المفاهيم المحدودة، فتستبين المعاني والمفاهيم، ولولا ذلك لكانت عصية على الفهم والإدراك.

ومن الأمثال التي ضربها سبحانه ليعقلها العالمون من عباده، قوله عز وجل: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور} (النور:35).

وحاصل هذا المثل: أن مثل الهدى الذي جاء به سبحانه لعباده كمثل نور مصباح، يستمد وقوده من زيت شجرة الزيتون المشهورة بالعطاء والخير، وهذا المصباح موضوع في زجاجة شفافة منيرة، تعكس ضوء المصباح، حتى يبدو كأنه نور كوكب منير من كواكب السماء، كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل ونحوها، والزجاجة موضوعة في كوة صغيرة في جدار، تقيه الريح، وتصفي نوره، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قوياً متألقاً غاية التألق.

فقوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} المراد: أنه سبحانه هادي أهل السموات والأرض {إلى الحق وإلى طريق مستقيم} (الأحقاف:30). فالمراد بـ (النور) الهداية إلى العلم والعمل؛ يدل على ذلك قوله سبحانه في آخر الآية: {يهدي الله لنوره من يشاء}، وقوله عقب ذلك: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} (النور:40). وهذا قول ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم.

قال الزمخشري: إضافة (النور) إلى {السماوات والأرض}؛ لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته، حتى تضيء له السموات والأرض. وإما أن يراد أهل السموات والأرض، وأنهم يستضيئون به.

وقال ابن عاشور: "وأحسن ما يفسر به قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور، وخاصة أسباب المعرفة الحق، والحجة القائمة، والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في الدنيا والآخرة".

وقوله سبحانه: {مثل نوره} في عود الضمير قولان:

أحدهما
: أنه عائد إلى الله عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن {كمشكاة}. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

ثانيهما
: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام، والتقدير: مثل نور المؤمن الذي في قلبه {كمشكاة}. فشبه قلب المؤمن، وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} (هود:17)، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.

وقوله سبحانه: {فيها مصباح}، قال أُبيُّ بن كعب: المصباح: النور، وهو القرآن، والإيمان الذي في صدر المؤمن.

وقوله تعالى: {المصباح في زجاجة}، أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية. قال أُبيُّ بن كعب وغير واحد: هي نظير قلب المؤمن.

وقوله سبحانه: {الزجاجة كأنها كوكب دري}، منسوبة إلى الدُّر في صفاء لونه وبياضه. شُبهت الزجاجة التي تحيط بالمصباح بكوكب منير مضيء، فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة، تعكس نور المصباح كأحسن ما يكون النور.

وقوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة زيتونة}، الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون، قال تعالى: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} (المؤمنون:20).

وقوله سبحانه: {لا شرقية ولا غربية}، أي: جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب. قيل: منبتها الشام، وأجود الزيتون: زيتون الشام. وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً، فهي شرقية وغربية.

وقوله تعالى: {نور على نور} قال أُبيُّ بن كعب: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. وبالطبع، فإنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض. النور الذي لا ندرك كنهه، ولا مداه. إنما هي محاولة لوصل القلوب به، والتطلع إلى رؤياه.

قال الرازي: "فالمصباح إذا كان في مشكاة، كان شعاعه منحصراً فيها غير منتشر، فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت، وإذا كان موضوعاً في زجاجة صافية تضاعف نوره، وإذا كان زيته نقياً صافياً، كان أشد إسراجاً، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به".

ووجه هذا المثل، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فُطِر عليها، بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان، أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية، فيجتمع له نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، نور على نوره.

والغرض الرئيس من هذا المثل؛ بيان أن الهدى الذي جاء به هذا الدين، إنما هو بمثابة النور الذي يضيء الطريق، وهو المنهج الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}، وكقوله عز وجل: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام:122).

ونختم الحديث عن هذا المثل بحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يُزْهِر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح: فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر. وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه). قال ابن كثير: إسناده جيد.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة