حَفِلت كتب علوم الحديث بلفظي المتقدمين والمتأخرين في كثير من المسائل، وذلك بسبب وجود تباين بين المتقدمين والمتأخرين في منهج التصحيح والتضعيف، وتنظير ما يتعلق بهما من المسائل والقواعد، وكذا طرق التحمل والأداء، والجرح والتعديل، وغير ذلك من المباحث، نظراً لتفاوتهم في التكوين العلمي في مجال الحديث وحفظه ونقده.
ورغم أن المتقدمين والمتأخرين - معاً - ساهموا في نهضة علوم الحديث، إلا أن المتقدمين كانت لهم اليد الطولى في النقد والتثبت والتحري، فتحسين المتأخرين وتصحيحهم - مثلاً - لا يوازي تحسين المتقدمين، لأنهم كانوا أعرف بحال الرواة لقرب عهدهم بهم، فكانوا يحكمون ما يحكمون به بعد تثبت تام ومعرفة دقيقة.
أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غير الأثر بعد العين، فلا يحكمون إلا بعد مطالعة أحوال الرواة في الأوراق، ومن البديهي معرفة الفرق بين المجرب والحكيم، وما يغني السواد الذي في البياض عند المتأخرين عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم كالعيان، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم، فاستغنوا عن التساؤل والأخذ عن أفواه الناس، فهؤلاء أعرف الناس، فبهم العبرة وإليهم المنتهى.
وليس في هذا تقليل لشأن المتأخرين الذين قعّدوا القواعد وأصّلوا الأصول وأزالوا الالتباس، وسلّموا الراية نقية كما تسلّموها، ولولا ما كتبوه في علوم المصطلح والتخريج وغير ذلك من فنون علوم الحديث لعسُر علينا فهم كثير من مصطلحات المتقدمين ومنهجهم.
وقبل أن نلِج في تبيين سمات مناهج المحدثين المتقدمين والمتأخرين، يجدر بنا أن نوضح من هم المتقدمون ومن هم المتأخرون، على أن ما سنذكره لا يسير عليه جميع المتقدمين أو جميع المتأخرين، بل يسير عليه غالب المتقدمين أو غالب المتأخرين، ولا يعنينا في هذا المقام أن نذكر من خرج عن ذلك من المتقدمين أو المتأخرين؛ إذ المقصد توضيح شيء بعينه.
المعنى اللغوي العام:
المتقدم: هو من يسبق غيره حسيًّا أو معنويًّا، والمتأخر من يسبقه غيره حسيًّا أو معنويًّا، وقد جاء الأمران في القرآن الكريم كما في سورة المدثر، قال تعالى: {نذيراً للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}، وفي سورة الحجر قال تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}، وقال أيضاً في السورة نفسها: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين}.
المعنى الاصطلاحي:
يثور كثير من الخلاف حول المقصود بالمتقدمين والمتأخرين، حيث يرى بعض العلماء أن المتقدمين هم نقاد الحديث، وأن المتأخرين هم الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ومن تبعهم في المنهج من أهل الحديث، دون النظر إلى الفاصل الزمني في التفريق.
وذهب بعض المحققين إلى أن الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو المائة الثالثة من الهجرة إلى وقتنا الحاضر، ومنهم من ذهب إلى أن الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو منتصف المائة الهجرية الرابعة إلى وقتنا الحاضر، أي أن الزمان هو الفاصل الفعلي بين المتقدمين والمتأخرين، ومنهم من أضاف قسما ثالثا وهو المعاصرين، ويقصد بهم من كان في القرن الثالث عشر إلى وقتنا الحاضر.
ومن هؤلاء المتقدمين - على سبيل المثال لا الحصر - : شعبة والقطان وابن مهدي، وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي، ويعتبر البيهقي خاتمة المتقدمين.
وأما المتأخرون فنذكر منهم - على سبيل المثال لا الحصر - : النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير، وعبد الغني صاحب الكمال، والذهبي والحافظ ابن حجر وابن الصلاح، وابن الحاجب، وابن عبد الهادي وابن القطان الفاسي، وضياء الدين المقدسي والمنذري، وشرف الدين الدمياطي، وتقي الدين السبكي، وابن دقيق العيد، والمزي، والسيوطي والسخاوي.
أبرز سمات منهج المحدثين المتقدمين:
تميزت طريقة المحدثين المتقدمين بمزايا، جعلتها تختلف عن طريقة المتأخرين، وقد ساعدهم في ذلك قربهم من عصر النبوة، وقوة ضبطهم، وسنعرض أهم سمات منهجهم فيما يلي:
1- الاختلاف بين الرواة: إذا كان ثمة اختلاف في وصل وإرسال أو رفع ووقف أو زيادة ونقص ونحو ذلك، فإنهم حكمهم يكون مبنيا على التأمل الدقيق في أحوال الرواة المختلفين، والتأمل التام في المتن المروي، فلا يحكمون للواصل مطلقاً سواء كان ثقة أو غير ثقة، ولا يحكمون للمرسل - أيضاً - مطلقاً، وكذا الزائد والناقص.. إلخ، وإنما يتأملون في ذلك، فإن دلت القرائن على صواب المُرسِل حكموا به، وإن دلت على صواب الواصل حكموا به، وهكذا بقية الاختلافات، وهذا أمر ليس بالهين، بل يستدعي بحثاً دقيقاً، ونظراً متكاملاً، وتأملاً قوياً في الموازنة بين ذلك، وإنما ساعدهم على هذا سعة حفظهم وقوة فهمهم وقربهم من عصر الرواية.
ولأجل هذا الأمر فإنهم لا يحكمون على إسنادٍ بمفرده إلا بعد أن يتبين أن هذا الإسناد سالم من العلل، كما قال الإمام علي ابن المديني: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه".
2- التفتيش في حديث الراوي: كانوا يفتشون في حديث الراوي حتى يميزون القوي من غيره، لأن الراوي قد يكون ثقة، إلا أن في حديثه شيئاً في بعض الأحوال أو الأوقات أو عن بعض الشيوخ ونحو ذلك، فهم يهتمون بتمييز ذلك والتنبيه عليه، وبناءً عليه فقد يكون الحديث خطئاً وإن كان راويه ثقة، ولأجل هذا فإنهم قد جعلوا أصحاب الرواة المشاهير على طبقات متفاوتة، بعضهم أتقن من بعض وهكذا.
3- نقد المتون: كانت لهم عناية خاصة بنقد المتون وتبيين عللها، والتنبيه على ما وقع فيها من خطأ ووهم، وهذا كثير في كلامهم، وقد ألف الإمام الترمذي كتابا خاصا بذلك، ذكر فيه كل ما يتعلق بالعلل وقواعد نقد الحديث.
4- اعتمادهم على قريحتهم: لم يكن الاعتماد على الكتب والمصنفات كبيرا، بل كان جُلّ اعتمادهم على ما حفظوه وتثبتوا منه.
أبرز سمات منهج المحدثين المتأخرين:
تميزت طريقة المحدثين المتأخرين بمزايا، جعلتها تختلف عن طريقة المتقدمين، وقد أدى إلى ذلك طول الأسانيد وقلة الضبط.. إلى غير ذلك من الأسباب، وسنعرض أهم سمات منهجهم فيما يلي:
1- تأصيل القواعد النظرية: قعّد المتأخرون قواعد نظرية ثم طردوها، وليس معنى ذلك اتفاقهم في جميع القواعد، إلا أنهم اتفقوا على أغلبها، فمن قواعدهم قبول زيادة الثقة، دون تحرٍّ في ذلك هل أصاب الثقة في هذه الزيادة أو أخطأ، فإذا اختلف في وصل حديث وإرساله أو وقفه ورفعه، وكان الواصل أو الرافع ثقة فقوله هو الصواب، ومنهم من يقول المرسل هو المصيب لأن هو المتيقن، فهذه قاعدة أخرى مقابلة للقاعدة السابقة، وكل هذا مجانب لمنهج أئمة الحديث المتقدمين، ولهذا ذكر ابن رجب أن هذه الأقوال كلها لا تعرف عن أئمة الحديث المتقدمين، ويترتب على قاعدتهم في زيادة الثقة فروع كثيرة ليس هذا مجال ذكرها.
2- الحكم على الأسانيد منفردة: كانوا يحكمون على الإسناد الواحد، دون النظر في بقية طرق الحديث التي قد تظهر علة قادحة في هذا الإسناد المفرد، وفي ذلك هدم لجزء كبير مما اشتملت عليه كتب العلل، ولهذا قل اهتمامهم بهذه الكتب، حتى لا تكاد تذكر إلا قليلاً، رغم أهميتها البالغة وجلالة مؤلفيها.
3- عدم الاعتناء بالتفريق بين أحاديث الراوي: كانوا إذا علموا أن الراوي ثقة فإنه يقبلون جميع أحاديثه، لأنهم لما حكموا بأنه ثقة ألزموا أنفسهم بقبول كل ما روى، ولهذا ظهر في العصور المتأخرة الحرص على إبداء كلمة مختصرة في الحكم على الراوي لتكون عامة في جميع رواياته.
4- المبالغة في تقوية النصوص بعضها ببعض: كانوا يحسنون الحديث أو يصححونه لكثرة طرقه، وهذا قد يعد نوعا من تقوية الخطأ بالخطأ، ولا شك أن تقوية النصوص بعضها ببعض أمر وارد عند أئمة الحديث المتقدمين، ولكن ذلك كان على نطاق ضيق، وله شروط وضوابط، لم يراعها كثير من المتأخرين.
5- الاعتماد على المصنفات: زاد اعتماد المتأخرين على المصنفات والكتب، بل كان جلّ اعتمادهم عليها، بجانب اعتماد بعضهم على ما يحفظه.
أثر الاختلاف بين مناهج المتقدمين والمتأخرين:
يتضح أثر الاختلاف بين مناهج المتقدمين والمتأخرين من خلال المقارنة بين ما يقوم به المتقدمون أو المتأخرون تجاه الشيء نفسه، ومن ذلك:
أولا: التعامل مع أحوال الراوة: قد يكون الراوي ثقة في جانب، كبعض شيوخه أو روايته عن أهل بلد أو إذا حدث من كتابه، ويكون ضعيفا في جانب آخر.
فيقوِّيه المتقدمون في بعض الأحوال ويضعفونه في الجانب الذي هو ضعيف فيه - أي أنهم يجزِّئون حال الراوي -، وأما المتأخرون فإنهم يميلون إلى طرد حال الراوي، إما نصًّا أو تطبيقاً، كأن يضعف المتقدمون ما يرويه معمر بن راشد عن ثابت البناني، ويقولون إنها نسخة فيها مناكير، أو ما يرويه عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، بينما لا يلتفت المتأخرون إلى ذلك، فهذه كتبهم وتحقيقاتهم يصححون أمثال هذين الطريقين، وربما ذكروا أنهما على شرط الشيخين أو أحدهما.
ثانيا: التعامل مع تعدد الطرق: قد يكون سبب تعدد الطرق من راوٍ واحد هو اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه.
ولهذا كان المتقدمون ينظرون إلى ذلك بعناية، لأن بعض هذه الطرق قد تكون صواباً وبعضها خطأ، وقد تكون كثرة الطرق راجعة إلى طريق واحد، وما يُظن أنه شاهد ليس كذلك لأنه خطأ من بعض الرواة في تسمية الصحابي مثلاً، بل قد يكون ما يظن أنه شاهد هو كاشف لعلة في الحديث الذي يراد الاستشهاد له، وأما المتأخرون فمنهم من يجوِّز كون الطريقين محفوظين، بل قد يذهب إلى عدد من الطرق والأوجه.
ثالثاً: إثبات السماع: قد يتوقف صحة الحديث على إثبات سماع راو من آخر، ولهذا يقرر المتقدمون أن الأصل في الراوي أنه لم يسمع ممن روى عنه، حتى يثبت ذلك بطريق راجح، وأما الأصل عند المتأخرين أنه متى روى عنه وأمكنه أن يسمع منه فهو متصل، وهو على السماع حتى يثبت خلاف ذلك.
رابعاً: زيادة أحد الرواة: إذا روى الحديث جماعة عن شيخ لهم، وزاد بعضهم زيادة في إسناد الحديث كوصله أو رفعه، أو زاد بعضهم لفظة في متن الحديث، فإن المتقدمين يسيرون على قاعدة وهي: النظر في كل زيادة بحسبها، فقد تقوم القرائن والأدلة على حفظها فتسمى "زيادة الثقة"، وقد تقوم على ضعفها فتكون "زيادة شاذة"، في حين يسير المتأخرون على قاعدة: زيادة الثقة مقبولة، وطرد هذه القاعدة، وتصحيح تلك الزيادات غالبا.
خامساً: التعامل مع كثرة طرق الحديث: يرى كثير من المتقدمين أن كثرة الطرق قد لا تفيد الحديث شيئاً؛ إذ قد تكون تلك الطرق خطأ أو مناكير، وهذه عندهم لا تشد بعضها بعضاً، في حين أن المتأخرين قد لا يلتفتون إلى مثل ذلك، فمتى وجدوا إسنادين أو ثلاثة، أو وجدوا شاهداً، فإنهم يعضدون ذلك ببعضه، ويرفعون الحديث إلى درجة القبول.
سادساً: التنقيب عن العلل والاهتمام بها: قد يكشف المتن عن علة خفية في الإسناد أو يساعد على تأكيد علة ظاهرة، ولهذا كان الأئمة المتقدمون يعرضون المتون بعضها على بعض، ويتخذون وسيلة عند تصادمها، وهي محاولة كشف العلة الخفية في الإسناد، أو ضمها إلى علة قائمة أصلاً في الإسناد فيزداد الحديث ضعفاً، وهذا ما سار عليه المتقدمون الذين اشتهروا بأنهم نقاد الحديث، وأما المتأخرون فإنهم يقومون بدراسة الأسانيد بمعزل عن المتون، والمتون يمكن التعامل معها بعد النظر في الإسناد، وليس قبل، ولهذا كثر عندهم التعرض للجمع بين الأحاديث، وربما التكلف في ذلك، وقل عندهم الاهتمام بالعلل، ولذلك لم يكثر التصنيف فيه.
سابعا: خبر المجهول والمدلس: يقبل المتقدمون خبر المجهول بقرائن، منها: أن يكون الراوي عنه لا يروي إلا عن ثقة، وأن يروي متناً مستقيماً، وأما المتأخرين فإنهم لا يقبلونه مطلقا، وكذا المدلس إن ثبت تدليسه إلا إذا صرح بالسماع، وأما المتقدمين فإنهم يقبلون خبره في الجملة، ما لم يُعلم أنه دلسه.
ونحن إذ نذكر الفرق بين المنهجين ونقرره؛ لا نقصد بذلك إهمال أحدهما والاعتناء بالآخر، بل نرمي إلى إفادة طلاب الحديث بالفوارق بين المنهجين، حتى يسهل عليهم أن ينهلوا من ينابيع المتقدمين والمتأخرين، كلٌّ بحسب ما أبدع فيه وأجاد، واللهَ نسأل أن يحشرنا في زمرتهم، وأن يجعلنا من المخلصين، وبالله التوفيق.