يتفاوت منهج الأئمة المحدثين في نقدهم للرواة أو المتون، بحسب ما ارتضى كل واحد منهم من قواعدَ لذلك، سواء كان ذلك في الجرح أو التوثيق (التعديل)، فمنهم من وضع ضوابط شديدة في التوثيق والجرح معا، والعكس، ومنهم من شدد في الجرح وتساهل في التوثيق، والعكس، قال العلامة المعلمي في التنكيل: «ومن الأئمة من لا يوثِّق من تقدمه حتى يطَّلِع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة وتكثر، حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي»، وما كان ذلك منهم إلا من مزيد اعتنائهم بالسنة والذود عن حياضها.
ولا يعتبر التساهل والتشدد الواقعين من بعض المحدثين مانعا من كونهم أئمة في هذا الفن؛ ولا يعد ذلك قدحاً فيهم، قال الإمام الذهبي في الموقظة: «وقد يكون نَفَسُ الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطفَ منه فيما كان بخلاف ذلك؛ والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط - يريد العصمة من مثل ذلك الميل، لا العصمة المطلقة فإنها للأنبياء خاصة -، ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأً؛ فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف».
نقد الأسانيد ونقد المتون:
يكون التساهل في نقد الرواة والتساهل في نقد الأحاديث متلازمين غالبا، إذا وجد أحدهما عند ناقد بعينه وُجد عنده ثانيهما؛ ولكن ذلك التلازم لا يطّرد، ولا سيما عند المتأخرين، وأوضح مثالين لذلك مسلك الحافظين الكبيرين الذهبي وابن حجر، فتساهلهما في نقد الأحاديث أكثر من تساهلهما في نقد الرجال.
وفي الجملة فإن كل متساهل في نقد الرجال متساهل في نقد الروايات، وليس كل متساهل في نقد الروايات متساهلاً - بنفس القدر - في نقد الرجال، وإن كان لا بد أن يقع منه تساهلٌ ما في هذا الباب أيضاً - باب نقد الرجال -، وإذا علم هذا في حق التساهل عُلم نظيرُه في حق التشدد.
تساهل الأئمة النقاد نوعان:
النوع الأول: تساهل في القواعد: وهو تساهل في المعاني والأحكام، وحقيقة هذا النوع اختيار قواعد وأصول للنقد مبنية على حسن الظن، فيؤدي التفريع عليها إلى إنشاء أحكام ترفع الراوي أو السند أو الحديث عن الرتبة التي يستحقها بحسب القواعد المعتدلة إلى رتبة تكون أكثر قوة لحاله خلافاً لما يستحق، كتحسين الأحاديث الضعيفة بمجموع طرقها، أو عدم الالتفات إلى العلل القادحة الخفية أو التي فيها نوع خفاء.
النوع الثاني: تساهل في المصطلحات: وهو تساهل في العبارات والألفاظ؛ وحقيقته تجوّز وتوسّع باستعمال المصطلح بمعنى غير معناه الذي استعمله به الجمهور.
وهذا النوع الثاني جائز إذا بيّن فاعله مراده بذلك المصطلح؛ وكذلك لا يطلق عليه وصف التساهل، ولكنه يسمى متساهلاً مع التقييد، كأن يقال مثلاً: ابن حبان يتساهل في كلمة "صحيح" فيطلقها على الحديث الحسن كما يطلقها على الحديث الصحيح.
تشدد الأئمة النقاد نوعان:
النوع الأول: نقل الراوي من رتبة يستحقها في التعديل إلى ما هو دونها، أو في التجريح إلى ما هو أسوأ منها وأشد، كأن يتشدد الناقد في إطلاق لفظة "ثقة" على الثقات فيكون شحيحاً بها على أكثرهم، وإنما يستعمل لوصفهم لفظة "صدوق" ونحوها.
النوع الثاني: التشدد في نقد الأحاديث.
ولكن ليعلم أنه إذا رأينا ناقداً من النقاد يستعمل لفظة "صدوق" مثلاً في مرات كثيرة في وصف من هو عند التحقيق ثقة، أو في وصف من هو عند التحقيق لا يرتقي إلى رتبة الصدوق، فإن هذا لا يلزم منه أن يكون بمجرده كافياً لتعيين نوع تساهله أو تشدده؛ بل إنه فوق ذلك - أي فوق احتماله أكثر من نوع من التساهل أو التشدد - يحتمل أن يكون مضطرباً في قواعده في النقد أو في أحواله في التساهل والتشدد والاعتدال، أو أنه متفاوت الأمر في سعة اطلاعه على أحوال الرواة وما قيل فيهم، فيصيب مرة ويجانب الصواب قليلاً أو كثيراً مرة أخرى؛ ولذا لا يصح تعيين أحد هذه الاحتمالات المذكورة إلا بقرينة صحيحة كافية.
ومما ينبغي التنبيه له بعد هذا التقسيم أن معنى تساهل النقاد ينصرف عند الإطلاق إلى النوع الأول من التساهل دون النوع الثاني منه؛ وكذلك يقال في حق التشدد.
التساهل عند المتقدمين والمتأخرين:
التساهل عند المتأخرين أكثر منه عند المتقدمين في الجملة، قال الإمام الذهبي في الموقظة: «وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يجرح مع ارتفاع الجهالة عنه، وهذا يسمى مستوراً، ويسمى محله الصدق ويقال فيه: شيخ...»، وقال الحافظ ابن حجر في هدي الساري: «كان المتقدمون يتحرزون عن الشيء اليسير من التساهل»، وقال المعلمي في الأنوار الكاشفة: «...وتحسين المتأخرين فيه نظر».
موقف الأئمة من اختلاف مناهج النقاد (التشدد والتساهل):
ليس الحكم على الرجال بالأمر اليسير كما قد يظنه البعض، أو هو مجرد نقل من كتب نقاد الرجال - كـ(تهذيب التهذيب) أو (ميزان الاعتدال) وغيرها من الكتب - دون فقه ومعرفة تامة بقواعد علم الجرح والتعديل، من مقاصد اصطلاحات الأئمة في نقدهم، والتفريق بين الجرح المبهم وغير المبهم، وغير ذلك من القواعد المهمة، التي من أهمها معرفة المتشددين من النقاد من المتساهلين، ومن اعتدل منهم في حكمهم على الرجال، ليدرك المنهج السديد والطريق القويم في الحكم على الرأي إذا اختلفت أقوال النقاد فيه.
وقد رسم الإمام الذهبي - رحمه الله - السبيل الواضح في ذلك لمن وجد اختلافا في الكلام على الرجل الواحد من الأئمة النقاد وكان منهم متشدد وآخر متساهل، فقال في رسالته القيمة ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل: «قسم منهم متعنت في الجرح متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ويلين بذلك حديثه، فهذا إذا وثق شخصاً فعض على قوله بناجذيك وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق، فهو ضعيف، وإن وثقه أحد، فهذا الذي قالوا فيه لا يقبل تجريحه إلا مفسراً».
وقال الإمام الحافظ ابن حجر في نزهة النظر: «ينبغي أن لا يُقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ، فلا يقبل جرح من أفرط فيه فجرح بما لا يقتضي رد حديث المحدث، كما لا يقبل تزكية من أخذ بمجرد الظاهر فأطلق التزكية... »، ثم قال: «وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل، فإنه إن عدل أحداً بغير تثبت، كان كالمثبت حكماً ليس بثابت، فيخشى عليه أن يدخل في زمرة "من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب"، وإن جرح بغير تحرز، فإنه أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك، ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً، والآفة تدخل في هذا تارة من الهوى والغرض الفاسد - وكلام المتقدمين سالم من هذا غالباً - وتارة من المخالفة في العقائد وهو موجود كثيرا قديما وحديثا، ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك».
وقال المعلمي في مقدمة الفوائد المجموعة: «ما اشتُهر من أن فلاناً من الأئمة مسهل وفلاناً متشدد ليس على إطلاقه، فإن منهم من يسهل تارة ويشدد تارة، بحسب أحوال مختلفة، ومعرفة هذا وغيره من صفات الأئمة التي لها أثر في أحكامهم لا تحصل إلا باستقراء بالغ لأحكامهم، مع التدبر التام».
وعليه .. فلا يعني وصف الإمام بالتشديد إهدار تضعيفه، ولا وصفه بالتساهل إهدار توثيقه، ولا وصفه بالإنصاف اعتماد حكمه مطلقاً، وإنما فائدة هذه الأوصاف اعتبارها قرينة من قرائن الترجيح عند التعارض.