الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا

لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا

لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا

الأحداث الكبيرة يسبقها من الإرهاصات والعلامات ما يشير إلى قرب وقوعها ، وقد تم للمسلمين فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة ، وفي السنة التاسعة أقبلت الوفود تقر بالإسلام وتدخل فيه أو تعطي الجزية عن يد وهم صاغرون ، ودانت جزيرة العرب بالإسلام ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف كل رمضان عشراً ، فاعتكف في السنة الأخيرة عشرين ليلة ، وجبريل يعارضه القرآن مرة في رمضان ، فعارضه في السنة الأخيرة مرتين .. فكل هذه العلامات وغيرها أشارت إلى قرب انتهاء مهمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأصبح الناس على محجة بيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ..

وقد جاءت بعض الآيات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومصرحة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كغيره من البشر سوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما ذاقه من قبل إخوانه من الأنبياء ، قال الله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }(الزمر:30) ، وقال : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }(آل عمران:144) ، وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }(الأنبياء:34) .. فهذه الآيات نصت صراحة على موته - صلى الله عليه وسلم - ..

وهناك بعض الآيات أشارت إلى قرب ذلك وإن لم تصرح به ، كما قال الله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً }(المائدة: من الآية3) ..
وذكر ابن كثير : " .. أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بكى حين نزلت هذه الآية ، فقيل ما يبكيك ؟! ، فقال : إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان ، وكأنه استشعر وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم ـ " ..

وفي ثاني أيام التشريق نزل قول الله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }(النصر آية : 1-3) .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لِمَ تُدْخِل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ ، فقال عمر : إنه مَنْ علمتم ، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم ، قال: فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله ـ عز وجل ـ : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم : أمر بأن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ ، قلت : لا ، قال: فما تقول ؟ ، قلت : هو أجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلمه ، فقال : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ، فذلك علامة أجلك ، { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول )(البخاري) ..

وبدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يودع الحياة بأقوال وأفعال تشير وتدل على قرب وفاته وانتهاء أجله ، ومن ذلك ما رواه معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال : لما بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليمن ، خرج معه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمشى تحت راحلته ، فلما فرغ قال : ( يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري ، فبكى معاذ جشعا (جزعا) لفراق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال : إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا )(أحمد) .

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أفاض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عرفة وعليه السكينة وأمرنا بالسكينة ، ثم قال : خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )(النسائي) .
وفي رواية مسلم : (..لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه ) .
قال النووي : " فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين ، وبهذا سميت حجة الوداع " ..

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( اجتمع نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عنده ، لم يغادر منهن امرأة ، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها ، فقال : مرحباً يا بنيتي ، فأقعدها يمينه أو شماله ، ثم سارّها (أخبرها بسر) فبكت ، ثم سارّها فضحكت .. فقلت لها : خصَّك رسول الله بالسِّرار وأنت تبكين ؟ ، فلما أن قامت قلت لها : أخبريني ما سارّك ؟ ، فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما تُوفي قلت لها : أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتيني ، قالت : أما الآن فنعم ، قالت : سارّني في الأولى قال لي : إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة ، وقد عارضني في هذا العام مرتين ، ولا أرى ذلك إلا اقتراب أجلي ، فاتقي الله واصبري ، فنعم السلف أنا لك ، فبكيت ثم سارني فقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة ؟ ، قالت : فضحكتُ ضحكي الذي رأيت )(مسلم) .
وفي هذا الحديث دليل قاطع وإشارة واضحة إلى اقتراب أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ساعة الرحيل قد باتت قريبة ، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختص ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بعلم ذلك ، ولم يعلم به المسلمون إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ..

ومن الإشارات الدالة على قرب وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترغيبه لأصحابه في كثرة ملازمته والجلوس معه قبل أن يُحْرموا ذلك ، ويتمنى أحدهم حينها لو رآه بأهله وماله .
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني ، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم )(مسلم) .
قال النووي : " .. وتقدير الكلام يأتي على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة ثم لا يراني بعدها أحب إليه من أهله وماله جميعا .. ومقصود الحديث حثهم على ملازمة مجلسه الكريم ، ومشاهدته حضرا وسفرا ، للتأدب بآدابه وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها ، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته .." .

ومن هذه الإشارات أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى أُحُد فصلى على الشهداء وكأنه يودع الأحياء والأموات ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : ( إني فَرَطكُمْ (سابقكم) ، وأنا شهيد عليكم ، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن ، وإني قد أعطيت خزائن مفاتيح الأرض ، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا ولكن أخاف أن تنافسوا فيها )(البخاري) .

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : خطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : ( إن الله ـ عز وجل ـ خَيَّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله ، قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عبد خُير ، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المُخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا )(البخاري) ..

لقد كانت وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثا مهما في تاريخ الإسلام والمسلمين ، وهي أعظم مصيبة أصيب بها أتباعه في كل زمان ومكان ، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه الذي مات فيه : ( يأيها الناس ، أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري ، فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي )(ابن ماجه) ..

فالموت مصير كل حي ، وليس لأحد أن يخلد في هذه الدنيا حتى النبي محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ ، كما قال الله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }(الزمر:30).. ومع أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلى الناس قدرا ومنزلة ، و أحب الخلق إلي الله - تعالي ـ ، فقد توفاه الله بعد أن بلغ الرسالة وأدي الأمانة في حياة حافلة بالعبادة والدعوة ، والبذل والعطاء ، والتضحية والجهاد ، وإنقاذ البشرية من الكفر والشرك إلى الإيمان والتوحيد ، وكان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) إشارة إلى قرب موته ورحيله من الدنيا إلى الرفيق الأعلى ، ودليلا من دلائل نبوته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة