الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة

يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة

يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة

بعد أن حذر الله سبحانه عباده المؤمنين من موالاة الكافرين، وصف حال الذين يوالونهم من دون المؤمنين، فقال سبحانه: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} (المائدة:52).

ولنا مع هذه الآية بضع وقفات، نستجلي من خلالها بعض لطائف هذه الآية الكريمة:

الوقفة الأولى: قوله تعالى: {فترى} تصوير للحال الواقعة من أولئك المرضى في قلوبهم، بأنها كالمرئية الظاهرة التي لا تخفى على ذي البصيرة المدركة، فهي حالة مرئية مشاهدة، يعلمها أصحاب القلوب الحية والمؤمنة.

الوقفة الثانية: قوله سبحانه: {يسارعون}، لم يقل: (يُسرعون)؛ وذلك أن الفعل (يسارع) في أصل استعماله يدل على المشاركة، بخلاف (يسرع)، الذي ليس فيه معنى المشاركة؛ وذلك للدلالة على مبالغة مرضى القلوب من المسلمين في الإقبال على اليهود والنصارى وموالاتهم، وأنهم يتسابقون إلى ذلك، سباق الذي يريد أن يحصل على أمر قبل غيره، فتراه مسرعاً إليه، يخشى أن يفوته مقصوده.

وقوله سبحانه: {يسارعون فيهم} بدلاً من (يسارعون إليهم)؛ لأن الفعل ضُمِّن معنى (يدخلون)؛ ليكون المعنى: يسارعون بالدخول في الكفار، والارتماء في أحضانهم، والمبالغة في موالاتهم، والاتصال بهم والتواصل معهم على وجه لا يرضاه الشرع ولا يقره.

وقال الشيخ أبو زهرة: (المسارعة): المبادرة، وتعدي الفعل هنا بـ (في)، مع أن المبادرة تتعدى بـ (إلى)؛ إشارة إلى أنهم لا يدخلون ابتداء فيهم، بل إنهم فيهم بقلوبهم من قبلُ، فـ (المسارعة) انتقال من حال إلى حال في صفوفهم، أي: إنهم منغمرون فيهم دائماً، ولا يخرجون عن دائرتهم.

الوقفة الثالثة: قوله سبحانه: {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}، (الدائرة) ما يصيب الجماعات من شدائد ونوازل بسبب أعدائهم، وهي في أصل معناها -كما يقول الواحدي - ما يدور من مصائب ونوازل من قوم إلى قوم، وهي التي تُخشى كالهزيمة والحوادث، وهي كـ (الدُّولة)؛ إذ تتداول بين الناس، كما قال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران:140)، بيد أن (الدُّولة) تتداول بالقوة والسلطان والعزة، و(الدائرة) تدور بالهزيمة والجائحات، فهي تدور بين الناس من جماعة إلى أخرى، ومن يخشى (الدائرة) من الجزع والهلع، يتوقع الأذى والشر.

ومرضى القلوب من المسلمين ليسوا بحاجة إلى موالاة اليهود والنصارى، بيد أن ضعف إيمانهم، ومرض قلوبهم، جعلهم يتهافتون عليهم تهافت الفَراش على النار؛ لعدم توكلهم على الله سبحانه، وعدم ثقتهم بنصر الله.

قالوا: وتنكير كلمة {دائرة} يدل على هلع هؤلاء المرضى، وأنهم يرجون العون والمساعدة من هؤلاء الكفار لأي نازل ينزل بهم، من حرب، أو فقر، أو مرض، أو غير ذلك من النوازل والمصائب.

الوقفة الرابعة: قوله سبحانه: {فعسى الله}، هذا وعد من الله لا يتخلف؛ لأن (عسى) في حق الله سبحانه تدل على حصول الشيء حصولاً أكيداً، بعكس ما هي عليه في حق العباد، حيث تدل عندهم على الرجاء، قال أبو عبيدة -وهو من أئمة اللغة-: "عسى الله: هي إيجاب من الله، وهي في القرآن كله واجبة، فجاءت على إحدى لغتي العرب؛ لأن (عسى) في كلامهم رجاء ويقين".

الوقفة الخامسة: قوله سبحانه: {أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده}، جاء سبحانه في هذه الآية بكلمة (الفتح) معرفة، وجاء بكلمة (أمر) نكرة، وقدَّم مجيء (الفتح) على مجيء (الأمر)؛ وذلك أن أول ما يتبادر إلى أذهان المؤمنين من كسر لشوكة أعدائهم، إنما يكون {بالفتح} المعهود لديهم، وهو النصر عليهم؛ فلذلك بدأ به، ثم ثنَّى بكلمة {أمر}، وهي كلمة عامة، تشمل كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من الأمور. كما أن الله سبحانه وصف كلمة {أمر} بقوله: {من عنده} وذلك لنكتة لطيفة، وهي أن (الفتح) إنما يكون من الله سبحانه، لكنه بأيدي المؤمنين، فهم سبب في حصوله، أما (الأمر) فمن عند الله وحده خاصاً، كإرسال الريح على الكفار، والخسف بهم، وإهلاكهم بالطوفان والزلازل والأمراض ونحو ذلك من النوازل السماوية.

الوقفة السادسة: قوله سبحانه: {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}، فـ (الندامة) متعلقة بما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الأمل في نصرة الكفار لهم، وليست متعلقة بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفار. فـ (الندم) هنا، الظن الفاسد الذي وقعوا فيه، وخيبة الأمل التي كانوا يرجونها، فليس ندمهم كندم التائب الذي يرجع إلى الله، وإنما ندمهم كندم المغيظ المحنق الذي كان يتوقع أمراً يناله، فخاب توقعه، وبان له غير ما توقعه.

قال بعض أهل العلم: عبر عن ندمهم بـ (الوصف) = {نادمين}، لا بـ (الفعل) = (يندمون)؛ للإشارة إلى أن هذا (الندم) حال دائمة عندهم، مستمرة ومستقرة، تتضمن الحسرة والغيظ، والألم المستمر.

وعلى الجملة، فإن هذه الآية بما تضمنته من لطائف بيانية، تكشف وتفضح حال من يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وتدل على وعد الله المؤمنين بالفتح القريب، والنصر المبين الذي يرجونه، وأنه سبحانه سينجز لهم وعده الذي وعدهم، وعندئذ {يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر} (الروم:4-5)، وتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ويكون الندم والحسرة على ضعفاء الإيمان والمنافقين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة