الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لمن الحكم؟ للخالق أم المخلوق؟

لمن الحكم؟ للخالق أم المخلوق؟

لمن الحكم؟ للخالق أم المخلوق؟

من أقوى الأدلة على أن الحكم لا يكون إلا لله أن البشر الذين يعطون أنفسهم حق الحكم أو يعطيهم إياه غيرهم يضطرون لأن ينسبوا لأنفسهم صفات إلهية لا يكون الحاكم حاكماً إلا بها.. ويكون هذا أحياناً بادعاء صريح للألوهية كما كان فرعون يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي}[القصص: ٨٣] أو {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات: ٤٢].

ولكن حتى عندما لا يكون هذا الادِّعاء صريحاً؛ فإن الحاكم الدكتاتور المستبد يضطر لأَن يعطي نفسه بعض صفات الخالق؛ كأن يطلب من المحكومين أن يطيعوه طاعة مطلقة، وأن يدَّعي أن كل ما يأمرهم به إنما هو لمصلحتهم التي هو أعلم بها.
ومما لا شك فيه أن كل هذه دعاوى باطلة؛ فلا أحد من البشر (فرداً كان أو مجموعة أفراد أو حتى الناس جميعاً) يمكن أن يعرف مصالح الناس كلها، وإنما الذي يعرف هذا هو خالقهم.

هذا عن الدكتاتوريات؛ فماذا عن الديمقراطيات؟
تقول الديمقراطية: إن الحكم للشعب.. لماذا؟ هنا أيضاً يضطر منظرو الديمقراطية وفلاسفتها أن ينسبوا إلى من يسمونه بالشعب صفات لا تكون إلا لله، تعالى؛ فهم يقولون - مثلاً -: إن الشعب يجب أن يكون حاكم نفسه؛ لأن الذي يرضى بأن يحكمه غيره كما هو الحال في الحكم الدكتاتوري أو الحكم الذي يسمونه بالثيوقراطي يكون عبداً لذلك الحاكم، وهذا صحيح.

ولكن بما أن الله - تعالى - هو خالق الناس، فهو المالك لهم وهم عبيده حقيقة؛ فهم حين يقبَلون تشريعه يُقرُّون بأمر حقيقي، لا كما يرضون بأن يكونوا عبيداً لبشر مثلهم لا يملكونهم حقيقة. ثم ما معنى أن يقال: إن الشعب حاكم نفسه؟ إن الشعب ليس شيئاً واحداً، وإنما هو مكوَّن من عدد من الأفراد؛ فهل يمكن أن يكون كل فرد في المجتمع حاكماً لنفسه مشرِّعاً لها؟ إذن لا يكون هنالك مجتمع، وإنما تكون فوضى.

الذي يحدث في الواقع هو أن بعض الأفراد يحكمون غيرهم. فإذا قلنا: إن الذي يرضى بحكم غيره من البشر يكون قد جعل من نفسه عبداً له؛ فإن هذه نتيجة لا مفر منها حتى في أحسن البلاد تطبيقاً للديمقراطية! لماذا؟ لأن التشريع في النظام الديمقراطي يكون: إما باستفتاء الشعب كله، أو بقوانين يُصدرُها نوابه في الهيئات التشريعية، أو بقرارات يتخذها حكامه التنفيذيون. أما في الاستفتاء؛ فإن القرار الذي يحكم به الشعب هو قرار الأغلبية. ماذا عن الأقلية؟ هل يكونون معبودين للأغلبية؟ ثم هب أن القرار كان بإجماع المستفتين لا بأغلبيتهم.
هنا أيضاً يقول بعضهم: إن المشكلة لم تُحَل؛ لأن كل فرد من الذين صوتوا للقرار كان معتمداً على غيره في جعل ذلك القرار قانوناً للبلاد؛ وإذن؛ فهو لم يكن حاكماً لنفسه، بل أشرك معه غيره في ذلك الحكم. أما في قرارات المجالس، فالأمر واضح؛ فممثلوا الشعب ليسوا هم الشعب، ثم إنهم لا يستشيرون الشعب في كل مسألة تُعرَض عليهم، وإن كانوا في بعض الأحيان يراعون أثر تصويتهم على الدوائر التي انتخبتهم. والقرارات سواء كانت بالإجماع، وهو أمر نادر جداً، أو كانت بالأغلبية؛ فإنه يقال عنها ما قيل عن الاستفتاء. وفي كلا الحالين لا يكون الشعب حاكم نفسه وإنما حكامه بعض أفراده.

الصفة الثانية التي يذكرونها هي صفة العلم: فهم يقولون كلاماً صحيحاً، هو: أن الذي يحكم يجب أن يكون عالماً بمصلحة من يحكم قاصداً لتحقيقها، ثم يقولون في الدفاع عن حكم الشعب: إن كل إنسان أدرى بمصلحته؛ فيجب أن يكون الحكم له، لكنّ المعترضين على هذه الحجة يقولون: إن القرارات الديمقراطية ليست قرارات فردية، وإنما هي قرارات تتعلق بالجماعة؛ فهل كل فرد في المجتمع هو الأدرى بمصلحة المجتمع في مسائل السياسة الداخلية والخارجية ومسائل الاقتصاد والقانون والتقنية وغير ذلك مما تتخذ فيه الدولة من قرارات؟

نزيد: وهل صحيح أن كل إنسان أعلم بكل مصالحه؟ أما كون الإنسان يعلم بعض مصالحه فأمر لا شك فيه، وأما كونه يعلم كل مصالحه فأمر يكذِّبه الواقع؛ إذ لو أن كل إنسان عالم بمصلحته لما احتاج أن يتعلم، ولا أن يشاور، ولَمَا غير رأيه في بعض ما كان يرى، لكن الواقع أن الإنسان يفعل كل هذا.
إن العالم علماً محيطاً بكل ما يصلح الإنسان وما يفسده لا يكون إلا خالقه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14]، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة:220]. أما البشر، فليس لهم مثل هذا العلم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216].

ومن أقوى الأدلة على أن الشعب لا يحكم نفسه حتى في الدول الديمقراطية، بل يحكمه أفراد منه، أن القوانين والدساتير التي يحكم بها الجيل الراهن كثيراً ما تكون قد وضعها أفراد في أجيال ماضية. ومن أبْيَن الأمثلة على ذلك أن الدستور الذي يُحكَم به الشعب الأمريكي الآن وضعه في القرن الثامن عشر بعض من يسميهم الأمريكان بالآباء.

لكنَّ المعترضين على حكم الله - تعالى - يثيرون شبهات، منها:
قولهم: أين نجد هذا الحكم؟ هذه مشكلة خاصة بالغربيين الذين ليس لهم كتاب هم موقنون بأنه من عند الله، تعالى.. أما المسلمون، فعندهم كتاب لا يشك حتى من درس الإسلام من الغربيين في ثبوت نسبته التاريخية إلى الرسول الذي أُنزِل عليه.

الشبهة المهمة الثانية التي يثيرونها، هي: أنه على فرض أن حكم الله - تعالى - مسجَّل في كتاب معروف؛ فإنه يكون شيئاً محدوداً مع أن ما يحدث للبشر من حوادث ونوازل شيء غير محدود؛ فكيف يكون حكم الله شاملاً لها؟
يكون شاملاً لها؛ لأن هنالك فَرْقاً بين النصوص والأحكام:
أولاً: لأن النص الواحد قد يدل على عدة أحكام؛ فالنص - كما يقول الشيخ في تعليقه ملخِّصاً لكلام لابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين -: «له سياق، وله إشارة وتنبيه، وإيماء، واعتبار، واقتضاء، وكل تلك دلالات نصية تؤخذ من النص الشرعي، وتشمل بعمومها أحكاماً كثيرة، مبيَّنة في كتب أصول الفقه».

ثانياً: إنه يمكن استخراج حكم جديد بضم نص إلى نص من نصوص أخرى، كما فَهِم الشافعي أن أقل الحمل ستة أشهر من ضم قوله - تعالى-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}[البقرة:233] إلى قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15].

ثالثاً: هنالك قواعد فقهية عامة. قال العلماء: إنها قطعية الثبوت، مثل قاعدة: لا ضرر ولا ضِرار، وقاعدة: رفع الحرج، وقاعدة: اليقين لا يزول بالشك. فيمكن للفقيه أن يستدل على تحريم الدخان - مثلاً - بقاعدة لا ضرر ولا ضرار بعد أن ثبتت علاقته بالسرطان.

رابعا: هنالك أحكام قياسية، وهي - باختصار -: أننا إذا وجدنا الشرع قد حكم على شيء ما بالتحريم - مثلاً - وعرفنا العلة التي من أجْلِها حُرِّم، ثم وجدنا هذه العلة نفسها في شيء جديد؛ فإننا نعطيه حكم الأصل الذي دلت عليه النصوص؛ فالعلة في تحريم الخمر - مثلاً - هي كونها مسكرة، فإذا وجدنا شيئاً جديداً فيه هذه العلة؛ فإننا نُحرِّمه بِغضِّ النظر عن اسمه أو لونه أو كونه سائلاً أو جامداً. هذا؛ لأن الشريعة متَّسِقة لا تناقض فيها: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٢٨]. قال ابن قيم الجوزية: (شَرْع اللهِ ووحيُه وثوابُه وعقابه قائم على إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المِثْل بالمِثْل) وهذا أيضاً باب واسع يشمل ما لا يكاد يحصى من الحوادث.

خامسا: ثم هنالك الإباحة؛ فإنها تشمل كلَّ أمر لم يذكر الله حكمَه، ولم يدل عليه القياس، ولا النصوص العامة؛ فهو باقٍ على أصل الإباحة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «وما سكت عنه، فهو عفو». وهذا أيضاً باب واسع جداً.

هذا الذي أوجزناه هنا، إنما هو قطرة من بحر ما كتب الفقهاء في هذا الأمر مثبتين أن الشريعة تفي بمصالح العباد كلها في دنياهم وأخراهم. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فأما اليتيم فلا تقهر

إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنو على الصغار وتحفظ حقوقهم وتنظم علاقاتهم فلا يستذل فيها ضعيف لضعفه،...المزيد