الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المصداقية.. المصداقية أيها الدعاة

المصداقية.. المصداقية أيها الدعاة

المصداقية.. المصداقية أيها الدعاة

إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق...
هكذا كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استدلت به أمنا خديجة رضي الله عنها على عدم تعرض الشيطان له، وأنه أولى بكل جميل.

كلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد كتب الله له لسان صدق وخلال حق؛ حتى عرف بين قومه بالصادق الأمين، وحتى رضوا حكمه في أخطر قضاياهم ومأثرة شرفهم وهو وضع الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة، وقالوا له ـ عندما دعاهم إلى الله ـ: "ما جربنا عليك كذبا"... فما زال الصادق دائما حتى بدا صدقه على قسمات وجهه؛ فقال عبد الله بن سلام لما رآه: فلما نظرت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.

والعجب العجاب حين قابله أعرابي فسأله عن نفسه فعرّفها له.. فقال الأعرابي: أنت الذي يقول عنه قومه إنه كذاب؟ قال: نعم.. قال: "لا والله ما هذا الوجه بوجه كذاب".

لقد جمع الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم مجامع الخلق كما جمع له مجامع الحسن وجوامع الكلم، فلما تلاقت الأخلاق العلية مع النفس الذكية الزكية والفعال الكريمة الندية كان ـ ولابد ـ أن تجتمع كلمة الناس حوله، فلا معارض له إلا من كتب الله عليه الضلالة أو سبقت له من الله الشقاوة.

ذلك أن الكل رأى فيه الصدق والمصداقية والمطابقة بين مقاله وفعاله وحاله وأعماله، فسبقت إليه القلوب قبل الأبدان، ودانت له العقول مع القلوب بالإذعان.. وهكذا كان رسل الله وأنبياؤه أجمعون ومن بعدهم الدعاة الصالحون والمؤمنون الصادقون والقدوات المتبعون كما قال خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه وتوكلت وإليه أنيب" "هود:88"

إن الإنسان ليعجب في هذا الزمان من الانفصام الذي يحدث من بعض المنتسبين للإسلام، والمتصدرين لدعوة الناس لدين الملك العلام حين يخالف حالهم فعالهم ويهدم قبح الفعل في لحظة ما ظلوا دهرا يبنونه بالأقوال.. فليس شيء يهدم الدعوات، ويسقط القدوات مثل الازدواجية وعدم الشفافية والانفصام النكد بين واقع الحال وظاهر المقال.

المصداقية:
يمكن أن نقول عنها إنها موافقة القول العمل، أو هي الصدق في القول والفعل والوعد، أو هي مطابقة الواقع والحال والفعال لمدلولات وحقائق الأقوال.. وهي بهذا أسلوب ومفهوم يحيط بكل جوانب العمل فيحقق له في النهاية أفضل سمعة وأعظم قبول وانتشار..

والمصداقية في الحقيقة التزام وسلوك وممارسة، وهي قبل ذلك كله إيمان وقناعات يراد إيصالها للسامعين أو غرسها في المدعوين.. فلا يصح بحال أن تكون عن عند صاحبها إيمانا مموها يبديها للناس في الظاهر وهو باطنا بها كافر..
إن المصداقية في الحقيقة ثروة متراكمة لا يمكن شراؤها بأي ثمن مهما كان، وكل عمل غير صادق أهله هو عمل فاشل لن يدوم طويلا.

لك أن تتخيل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أثر عنه الكذب ولو مرة، أو أنه خان أمانة يوما من دهره، أو أنه خالف قولَه فعلُه، أو سبقه إلى ما يدعو إليه غيرُه، أو خالف يوما من الأيام ما كان يدعو إليه من مكارم الأخلاق.. كيف يكون حال الناس معه؟!!.. إذا لسقطت دعوته من جذورها، وانفض الناس جميعا من حوله.. فالصدق والالتزام أهم بكثير من الكلام المنمق والإطلالات الجذابة الخلابة.. الكذابة.

فبغير الصدق والمصداقية يتحول كل جهد مبذول إلى هباء منثور. فالداعية والقدوة حيث كان إنما هو في الحقيقة تاجر يعرض سلعة فإذا لم يجد الناس المصداقية فيه وفي سلعته لم يقبلوا عليه ولا عليها، وسرعان ما ينفضون عنه وعنها؛ فتكسد سلعته، وتخسر صفقته، وتبور تجارته.

إن الحديث عن آفة الانفصال في الأقوال والأفعال والتباين بينهما مر المذاق، مجر لعبرات الأحداق؛ فكم تستبيك أقوال مزخرفة، وتأسرك خطب مدبجة مطرزة، وقول بليغ مفوه، وحديث آسر مموه، وإذا صاحبه عند التحقيق والابتلاء خداج مشوه، قد حق فيه قول الحق - جلَّ جلاله -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]

وكم يعتصر القلب ويصيبه الأسى والحزن من منتسب للديانة يقول كلاما (حقا أو باطلا) فإذا جوبه به أنكره، ثم لا تلبث الأيام أن تظهر صحة نسبة الكلام إليه بلا ارتياب.. فلا يدري الإنسان من يتبعه بعد ومن يقتدي به.. وهل يصلح أن يكون قدوة كذاب.. لا والله إن هذا لشيء عجاب.

وأعجب منه أن يظل الرجل يدعو الناس إلى لزوم ووجوب العلم قبل العمل ويؤصل لذلك ليل نهار، ويقرر أن ذلك من أصول منهج السلف، وأنه لا ينبغي للمرء أن يتكلم إلا بعد العلم؛ لأن من تكلم بغير علم أتى بالعجائب، وأن من تكلم بما لا يعلم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، ثم هو يتجرأ بالكلام في أمور العامة ومشاكل الأمة بغير وعي ولا دراسة ولا بحث ولا عناية، فيهدم قواعده على رأس نفسه، ويستجر الملامة عليه وعلى أهل منهجه، ويكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

وأعجب منهما وأكبر من يدعو مريديه لاحترام أهل العلم والفضل، ومن كان له في الدين سابقة خير، ويخوفهم من الخوض في أعراض العلماء، وأن لحومهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من تعرض لهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.. ثم..
ثم.. هو يطعن في خيار الناس وفضلائهم، وينتقص أئمة الدعاة وخيارهم، ورؤوس العاملين ورموزهم، فيرميهم بالعظائم والقبائح، ويعرض ـ بل ويصرح ـ بسوء النوايا والمقاصد، مع الهمز واللمز والطعن والغمز. لغرض من الدنيا رخيص، أو حظ من الشهرة خسيس، أو هوى في النفس كان الأولى بالعاقل ـ فضلا عن الداعية والقدوة ـ كتمانه لا إعلانه.

والصور كثيرة غير هذا مما لا يحتاج لجهد في معرفته وإظهاره، وليس القصد هنا إلا التنويه عليه لإبطاله وإنكاره، وبيان أن الأصل أن هذا مرتقى ومزلقا الأولى بنا أن نتقيه لا أن نرتقيه، وأن مخالفة المرء ما يدعو إليه مذموم من كل الوجوه:
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى .. فمن جهتين لا جهة أساءَ

يأيـها الرجــل المعـلم غــيره .. هــلا لنفـسك كان ذا التعليم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها .. فإن انتهت عنه فأنت عظيم
فهناك يقـبل ما تقـول ويقتدى .. بالـقـول مـنك ويـنفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مــثله .. عـار عليك إذا فعلت عظيم

وذم القرآن والسنة لهذا قد سبقا كل ذم وليس بعد كلام الله كلام: "يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون". صدق الله العظيم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد