الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

منهج دراسة السيرة النبوية

منهج دراسة السيرة النبوية

منهج دراسة السيرة النبوية


العلم يشرف بشرف معلومه ، والمعلوم في علم السيرة النبوية هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - ، ولابد لمن يريد معرفة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستقيها من المصادر المعتمدة ، وأن يتبع المنهج الصحيح في دراستها ، والذي ينبغي أن يكون منطلقا من عزة الإسلام ، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً غيره ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(آل عمران:85) ، وأن الإسلام لا يمكن أن تتم معرفته إلا بمعرفة ودارسة سيرة وحياة هذا النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وقد كُتِبَت في السيرة النبوية كتابات كثيرة ، ولكن تلك الكتابات لم تكن على نحوٍ واحد من جهة اختلاف مناهج أصحابها ، وأهدافهم من كتابة السيرة ، فمناهج الباحثين في السيرة النبوية كثيرة ومختلفة :

منهج المبالغين الغالين :

الذين يُضْفون على النبي - صلى الله عليه وسلم - صفات لا تليق إلا بالله - عز وجل - ، فهؤلاء يبالغون في إطرائه ، ولا يبالون في صحة ما يروون أو ينقلون ، ولا يعتمدون على المصادر الأصيلة والصحيحة من كتب السنة والسيرة ، رغم أن خصائصه ومعجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي ذكِرَت في القرآن الكريم ، وجاءت في السنة الصحيحة والآثار المعتبرة من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي لا يشهد لها سند صحيح ، ولا نقلٌ مُوثَّق ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تُطْروني (تبالغوا في مدحي ) كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله )(البخاري) .

منهج الباحثين الغربيين :

وهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومن شاكَلهم من الكُتَّاب والمفكرين المنتسبين للإسلام ، فهؤلاء إذا تناولوا السيرة النبوية بالبحث والدراسة تعاملوا معها كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم أو بطل أو قائد ، فيتحدثون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يتحدثون عن هؤلاء ، ويصفونه بالبطولة والعبقرية والزعامة أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تُغْنِي عن مقام النبوة .

فيتحدثون عن سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثاً مادياً ، دون ربط لها بالوحي والغيب ، والتأييد الإلهي ، وكأنهم يتحدثون عن سيرة أحد الأبطال والزعماء المعروفين في هذا العصر . مع أنهم يثنون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصفونه بأوصاف كبيرة ، ويفضلونه على غيره ، ولكن الخطورة تكتنف هذا المنهج من جهة قطعه عن الصلة بالله ، وعن الإيمان بالغيب .

وبعضهم يحكمون العقل في النصوص ، فيردون أحاديث ووقائع صحيحة تتعارض مع عقولهم وأفكارهم ، وينكرون عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن ومتواتر السنة ، كنزول الملائكة في بدر ، والطير الأبابيل ، وشق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والإسراء والمعراج .

فيصفون الإسراء والمعراج بسياحة الروح في عالم الرؤى ، ويفسرون الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي ، ووصف الطير الأبابيل بداء الجدري، وأن شق الصدر كان شيئاً معنوياً ، وأن لقاء جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء كان مناماً ، إلى غير ذلك . وهكذا تُفَّرغ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحقائق الغيبية ، والمعجزات التي لا تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها ، لأن الله هو خالق النواميس ، وهو القادر على خرقها متى شاء بآيات ومعجزات على يد أنبيائه ، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ }(الحديد: من الآية25) .

ثم إن العقل السليم لا يتعارض مع النقل الصحيح ، فما صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أخبار يقبلها العقل ولا يردها ، وإذا لم يحصل الاتفاق والتطابق بين العقل والنقل الصحيح على أمرٍ ما تعين اتهام العقل ، كما ثبت عن سهل بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم " ، وكما جاء عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه " هذا من جهة ومن جهة أخرى العقول تتفاوت فقد يقبل هذا ما لا يقبله هذا .

منهج السلف ومن سار على هديهم :

وهو المنهج الصحيح والمطلوب السير عليه في دراسة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو الذي ينكر منهج الغلو والمبالغة في إطراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما ينكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة النبوية ، فالمنهج الصحيح هو الذي يعتمد في دراسة السيرة واستلهام الدروس والعبر منها على القرآن الكريم ، والمصادر الأصيلة الصحيحة من كُتُب السنة والسيرة ، دون مبالغة في إطراء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراجه عن وصف العبودية ، ودون إغفال لمقام النبوة الذي يعلو به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سائر البشر .

وهو المنهج الذي يقوم ـ أيضاً - على الإيمان بالغيبيات ، والمعجزات الكثيرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي أكرمه الله بها ، فهو أكثر الرسل معجزة ، وأبهرهم آية ، فله من المعجزات ما لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ ، وقد أُلِّفت في معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ المؤلفات الكثيرة ، وتناولها العلماء بالشرح والبيان ، كما قال ابن القيم ـ بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ : " .. وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بُعْدِ العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما ، فما الظن بنبوة مَنْ معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب ، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن .." بل إن سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأحداثها ومواقفها ـ ذاتها ـ معجزة من معجزاته ، وآية من آيات نبوته كما قال ابن حزم : " .. فإن سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقاً ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى .." .

فلم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه ، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده ، قال الله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم 3 : 4) ، وقد أُوتِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من جمال الصُّورة ، وتمام الخِلقة ، وحُسن الخُلُق ، والرِّفق في المعاملة ، والعدل في الغضب والرِّضا .

لقد فرضت سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسها على المسلمين بالعناية والاهتمام بها ودراستها ، وذلك لأن سيرتـه - أقواله وأفعاله - هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ـ بعد القرآن الكريم . ومن ثم يتضح لنا أهمية دراسة السيرة النبوية في ظل منهج علمي صحيح ، يسعى إلى بناء السلوك وفق هَدْي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخلاقه ، ويساعد على التقدم في مجال البناء الحضاري للأمة المسلمة التي تقتفي أثر نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم ـ ممتثلة قول الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة