الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قل كل يعمل على شاكلته

قل كل يعمل على شاكلته

قل كل يعمل على شاكلته


روي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال: لم أر في القرآن أرجى من قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. قال أبو بكر ذلك حين تذاكر الصحابة رضي الله عنهم القرآن.

ولنا وقفة مع هذه الآية الكريمة:

الكلمة المفتاحية في هذه الآية قوله تعالى: {شاكلته}، وقد ذكر المفسرون عدة أقوال في المراد من (الشاكلة) في هذه الآية، حاصلها على النحو التالي:

(الشاكلة) بمعنى: الناحية، روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قوله: {كل يعمل على شاكلته}، يقول: على ناحيته. ورجح ابن عطية قول ابن عباس من أن المراد بـ (الشاكلة) الناحية.

(الشاكلة) بمعنى: الطبيعة النفسية. وهذا مروي عن مجاهد.

(الشاكلة) بمعنى: النية، روى الطبري عن قتادة، قال: {كل يعمل على شاكلته}، على ما ينوي.

(الشاكلة) بمعنى: الدِّين، روي عن ابن زيد قال: الشاكلة: الدِّين.

(الشاكلة) بمعنى: الشَّكل، بفتح الشين، يقال: ليس على شكلي ولا شاكلتي. فـ (الشَّكل) هو المثل والنظير والضرب، كقوله تعالى: {وآخر من شكله أزواج} (ص:58)، أي: من مثله ونظيره.

(الشاكلة) بمعنى: الطريقة والمذهب: وهذا التفسير مروي عن الفراء، والزجاج من أهل اللغة، واختاره الزمخشري والرازي؛ لقوله تعالى في ختام الآية: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، أي: أسدُّ طريقاً، وأبين منهاجاً.

فـ (الشاكلة) بحسب هذا القول: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها. وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه. قال النابغة يذكر ثوباً يشبه به بُنيات الطريق:

له خُلج تهوي فُرادى وترعوي إلى كل ذي نيرَين بادي الشواكل

و(الشواكل) جمع (شاكلة)، وهي شُعب الطريق وفروعه.

قال ابن عاشور: "وهذا أحسن ما فسر به (الشاكلة) هنا. وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل".

قال القرطبي معقباً على ما قيل في معنى (الشاكلة): وهذه الأقوال كلها متقاربة. والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي أَلِفَها، وهذا ذم للكافر، ومدح للمؤمن. ونحو هذا قال ابن كثير.

وقد جوز الرازي أن يكون المراد بـ (الشاكلة): أن كل أحد يفعل على وَفْق ما شاكل جوهر نفسه، ومقتضى روحه، فإن كانت نفساً مشرقة حرة ظاهرة علوية، صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة، كقوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} (الأعراف:58)، وإن كانت نفساً كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية، صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة، كقوله تعالى: {والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} (الأعراف:58). وما جوزه الرازي قريب مما تقدم، وليس ببعيد عنه.

وهذه الآية تهديد للمشركين، ووعيد لهم، وهي بمعنى قوله تعالى: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون} (هود:121-122)؛ ولهذا قال: {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، أي: منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله، فإنه لا تخفى عليه خافية.

وقوله سبحانه في ختام الآية: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، فيعلم من يصلح للهداية، فيهديه، ومن لا يصلح لها، فيخذله ولا يهديه. قال الشوكاني: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}؛ لأنه الخالق لكم، العالم بما جُبلتم عليه من الطبائع، وما تباينتم فيه من الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يُعْرِضُ عند النعمة، ولا ييأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم، والقنوط عند النقم".

قال الشيخ السعدي: "وهو كلام جامع؛ لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم؛ لعلهم ينظرون، كقوله سبحانه: {وإنا أو إياكم لعلى هدى} (سبأ:24).

وحاصل المراد من هذه الآية: حث المؤمنين على المضي على طريق الهدي القويم، والثبات على الصراط المستقيم، وعدم الالتفات يمنة أو يسرة؛ لئلا يضلوا عن سواء سبيل، وإنذار الضالين بسبب ما هم فيه من الضلال، وتوعدهم بأنهم إن استمروا على ما هم فيه من الغي والضلال والإعراض عن الهدى، فإنهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة