الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم

رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم

رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم

في صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل ، وُلِد أفضل الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة المكرمة ، في أشرف بيت من بيوتها ، فقد اصطفاه الله من بني هاشم ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفى قريشاً من سائر العرب ، قال ـ صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله خلق الخلق ، فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً ) رواه أحمد .
فكان نسبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أطهر الأنساب ، وتمتدّ أصول هذه الطهارة حتى تصل إلى آدم عليه السلام .

وقد تُوفي والده ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مولده ، وتولى أمره جدّه عبد المطلب ، الذي اعتنى به وشمله بعطفه واهتمامه ، وكانت أول من أرضعته ثويبة أََمَة عمه أبي لهب ، فمن حديث زينب ابنة أبي سلمة أن أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ أخبرتها أنها قالت : ( يا رسول الله ، انكح أختي بنت أبي سفيان ، فقال : أو تحبين ذلك؟ ، فقالت : نعم ، لست لك بمخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن ذلك لا يحل لي ، قالت : فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ، قال : بنت أم سلمة ؟ ، قلت : نعم ، فقال : لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني و أبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) رواه البخاري .

ومن مرضعاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ : حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية من بني سعد ، الذي كان استرضاعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في باديتها ـ بني سعد ـ شأنه شأن سادات قريش ، يرضعون أولادهم في البوادي ليقووا أجساما ، ويفصحوا لسانا .

وخلال طفولته في رعاية حليمة السعدية وقعت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آيات وإرهاصات دلت على بركته وفضله ، وأشهر ما روي في ذلك حديث حليمة السعدية ـ رضي الله عنها ـ الطويل المشهور الذي رواه كافة أهل السير ، والذي فيه أنه بمجرد حلول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها لإرضاعه ورعايته ، امتلأ ثديها باللبن ، فارتوى منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابنها ، بعد أن كان يبكي من الجوع لجفاف ثدي أمه ، ولا ينام هو وأهله ، وامتلأ ضرع ماشيتها باللبن بعد أن كانت يابسة ، وأصبحت راحلتها نشطة قوية تسير في مقدمة الركب ، بعد أن كانت عاجزة تسير في مؤخرة الركبان ، وحيثما حلت أغنام حليمة تجد مرعاً خًصْباً فتشبع ، ولا تجد أغنام غيرها شيئا ، وكان ينمو نمواً سريع لا يشبه نمو الغلمان .
ولذلك تحايلت حليمة لإقناع والدة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بضرورة رجوعه إلى البادية بحجّة الخوف عليه من وباء مكة ، وقد أحب أهل بيت حليمة هذا الطفل المبارك ، وأحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته ، حتى كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم .

وتعد حادثة شق الصدر التي حصلت له ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثناء وجوده في بني سعد من إرهاصات النبوة المبكرة ، ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل .
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه (جمعه وضمه) ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره (مرضعته) ـ فقالوا : إن محمداً قد قُتِل ، فاستقبلوه وهو منتقع (متغير) اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره ) رواه مسلم .
وبهذه الحادثة الكريمة نال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرف التطهير من حظ الشيطان ووساوسه ، ومن مزالق الشرك وضلالات الجاهلية ، مع ما فيها من دلالةٍ على الإعداد الإلهيّ للنبوّة والوحي منذ الصغر ، وقد دلت أحداث صباه وشبابه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثماً ، ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك في قريش .

وقد زعم بعض المستشرقين أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } (الشرح:1) ، وأنه لو كان لها أصل فهي تشير إلى نوع من الصرع ، وهذا الذي زعموه سبقه إليهم المشركون حين اتهموا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنون ، فنفى الله عنه ذلك فقال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }(التكوير:22).
وكذلك ذهب أصحاب المدرسة العقلية ـ من المسلمين المتأثرين ببعض المستشرقين ـ إلى تأويل حادث شق الصدر ، فمنهم من قال أنها أسطورة ، ومنهم من قال أنها أمر معنوي ، وغير ذلك مما قالوه وزعموه .

ومن أوجز ما قيل في حادثة شق الصدر في الرد على مثل هؤلاء، كلام ابن حجر فبعد أن عرض لذكر الروايات الدالة على شق الصدر وتكرره قال : " وجميع ما ورد من شق الصدر ، واستخراج القلب ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ، مما يجب التسليم به دون التعرض لصرفه عن حقيقته ، لصلاحية القدرة الإلهية ، فلا يستحيل شيء من ذلك " .
ومما ينبغي على المسلم أن يعلمه أن ميزان قبول الخبر إنما هو صحة الرواية ، فإذا صحت فلا يجدي البحث بعد هذا لصرف الكلام إلى غير حقيقته .

لقد كانت رضاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطفولته ملفتة للنظر ، فيها من الأحداث والإشارات ما يشير إلى علو منزلته وفضله وبركته ، وعناية الله به وحفظه ، لأن الله ـ عز وجل ـ قدَّر من الأحداث ما يسلط به الضوء عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ رضاعته بل منذ ولادته ، لأن هذا الطفل سيكون فيما بعد هادي البشرية ، وخاتم النبيين ، ورحمة الله للعالمين ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة