الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

محمد بن إسحاق وكتابة السيرة

محمد بن إسحاق وكتابة السيرة

محمد بن إسحاق وكتابة السيرة

لا تكتبوا عني.. كان هذا أمراً من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".

هكذا أمرهم في أول الأمر وعلة ذلك أمور لعل من أهمها:
1- ألا يختلط القرآن بغيره فيزاد فيه ما ليس منه، أو يسقط منه شيء هو منه.
2- أن تنصرف الهمة للحفظ فإن الكاتب يعتمد على كتابته ويقصر في الحفظ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تنصرف هممهم لحفظ سنته، أما القرآن فالهمم منصرفة إليه لجلالته.

تتبع الصحابة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وكل ما يتصل به فجمعوه ووعوه وحفظوه ورووه لمن بعدهم بما وهبهم الله من حافظة واعية ونفس صافية وبصيرة نافذة وذهن ثاقب وقلب متدبر يفهم ما يسمع ويعي ما يرى.

مضى عصر الصحابة وأكثر عهد بني أمية حتى جاء الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز فخشي ضياع السنن وذهاب العلم بذهاب أهله فأمر أبا بكر بن حزم قائلا: "انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعَلـّم من لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا".

وكذلك طلب عمر من الإمام الزهري "محمد بن مسلم بن شهاب الزهري" وكانت هذه فترة جمع دون تمييز للموضوعات أو ترتيب للأبواب أو حتى كبير تمييز بين درجات الأحاديث من ضعيف وحسن وصحيح.

ثم جاء عصر التصنيف والترتيب سواء على أبواب الفقه أو على المسانيد أو غيرها، وكان ما يخص السيرة يجمع تحت باب المغازي والسير.

"بدأ جمع سيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه في طبقة التابعين، وأشهرهم عروة بن الزبير، ثم تلتها طبقة كان أشهر رجالها محمد بن شهاب الزهري، ثم تلتها طبقة أشتهر منها موسى بن عقبة المزني ت141هـ، ومحمد بن إسحاق بن يسار ت151هـ، وهو صاحب أصل السيرة والتي هذبها عبد الملك بن هشام الحميري 218هـ والمسماة بـ"سيرة ابن هشام"، ولقد تتابع الناس على الكتابة في سيرة المصطفى الكريم بعد هذه الطبقات وإلى يومنا هذا بداية بمحمد بن سعد صاحب التطبيقات الكبرى ونهاية بمحمد الغزالي والبوطي والمباركفوري وغيرهم من معاصرينا وبين ذلك أئمة عظام وأعلام كبار كالقاضي عياض صاحب كتاب "الشفا من أحوال المصطفى"، وسيمتد ذلك إلى أن يشاء الله تعالى.
فأما مصنفات الطبقة الأولى والثانية فقد ذهبت مع كثير من مصنفات الثالثة، وإنما عرفناها من خلال نقول اللاحقين ولولا ذلك لما كان عندنا من خبرها شيء.

منهج بن هشام
سيرة ابن إسحاق هي أقدم سيرة وصلت إلينا، وقد هذبها ابن هشام بعد تأليفها بـنحو 50 سنة، ويرويها عن ابن إسحاق بواسطة رجل واحد هو زياد البكائي وقد اختار منها ما رآه نفاعا مفيدا في بابه، وترك منها ما لا فائدة كبيرة في ذكره أو مما لا يثبت أو مما لا صلة له بالسيرة كما ظنه كذلك، وقد حافظ على لفظ صاحبها قدر المستطاع، وأكثر ما تركه من الشعر وخاصة ما لا يثبت إلى قائله عند أهل الفن. ومع ذلك ففيها الكثير مما يمكن الاستغناء عند دراسة السيرة خاصة.

لقد كتب لهذا الكتاب الانتشار والشهرة ما لم يكتب لغيره من كتب السيرة، ولقد كان وما يزال مرجعا هاما لكل من أراد البحث في سيرة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. وإنما نسب هذا المؤلَّف لابن هشان للجهد الذي بذله في خدمته ونفع به المطلع على الأصل.

محمد بن إسحاق ت151هـ:
هو أبو عبد الله ـ أبو بكر ـ محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، المؤلف الثبت الحافظ المتقن عمدة من أتى بعده وأوحد من عاصره جمعا لأخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم.. قال عنه الزهري: لا يزال بالمدينة علم جم ما كان فيهم ابن إسحاق.
قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق.
كان يسار جده مولى لقيس بن مخرمة وكان أصله فارسيا، أُسر عام 12هـ، في عين التمر حينما افتتحها خالد بن الوليد عنوة وكان من سبيها سيرين أم محمد بن سيرين، ويسار هذا، وحمران مولى عثمان، وكان أول سبي دخل المدينة.

ولد محمد بن إسحاق بالمدينة، وتلقى عن علمائها وارتحل وطوف حتى استقر بالعراق.

وقد مدحه كبار متقدمي العلماء فمدحه: الثوري، والزهري، والحمادان، وابن المبارك وخلق غيرهم كثير، وسبق كلام الشافعي فيه.

وقد تكلم فيه علمان كبيران: هشام بن عروة ومالك:
فأما هشام فلأنه روى عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر.. وقد كان هشام يقسم أنه ما رآها ولا سمع منها.. وقد رد ذلك جمع من العلماء.

وأما مالك فكانت بينهما وحشة؛ لأن ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك ويزعم أنه مولى من موالي بني تيم بن مرة.

وهذا القدح مما يقع كثيرا بين العلماء، وهو مما يطوى ولا يروى ولا يقدح طعن الأقران ما لم يكون ثابتا مبينا.. ومثل هذا مما لا يخلو منه زمن ولا يكاد يسلم منه أحد.

ولقد نفع الله تبارك وتعالى بهذه السيرة زمانا ولا يزال الناس ينتفعون بها ويجعلونها أصلا ومرجعا فرضي الله عن مؤلفها ومختصرها ونفعنا الله والمسلمين بسيرة حبيبه صلى الله عليه وسلم.. والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
همام الحارثي

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة