الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسباب استمالة قلوب الناس(2-2)

أسباب استمالة قلوب الناس(2-2)

أسباب استمالة قلوب الناس(2-2)

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدّ، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله أشهد أنه رسول الله، والداعي إلى سبيله، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً، بين يدي الساعة وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وبارك عليه، وعلى أصحابه، وآله وخلفائه، وأزواجه، والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين يا رب العالمين.
تكلمنا في مقال سابق عن خمسة أسباب لكسب القلوب واستمالتها، وفي هذا المقال نكمل ما بدأنا الحديث عنه من هذه الأسباب، وهي:

6.إظهار التوقير للناس وإنزالهم منازلهم

فإظهار التوقير والاحترام للناس، وإنزال الناس منازلهم كذلك مما يجمع المحبة في القلب لهذا الذي أعطي الفخرالذي في نفسه ، وقد استعمل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا مع سادات الجاهلية كالأقرع بن حابس، وأبي سفيان، وعيينة بن حصن، وثمامة بن أثال...وهكذا فأسلموا ودخلوا في الدين، يدخل عليه هذا فيكرمه ويبسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي عنده، و يقول : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

إنزال الناس منازلهم، وإشباع ما في نفوسهم من أمورٍ لا تتعارض مع الشرع، بل هي من المداراة، و"إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم"، ورحمة الصغير، ومراعاة الطبائع، مراعاة الطبائع تستجلب المحبة، وقد قسم الله الأخلاق كما قسم الأرزاق، فمن الناس من هو هيّن ليّن يترقرق البشر من وجهه، ومنه من هو فظّ صعب المراس كأنما قُدّ وقطع من صخر، ومنهم من هو مبتغي بين ذلك سبيلا، قال -عليه الصلاة والسلام- "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمْ الْأَحْمَرُ، وَالْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ،- هذه ألوان الطين والتراب في العالم، جاء منها البشر، لكن أليس من الأرض صخرية ورملية وطينية تمسك ولا تمسك، وتخضر وقاحلة- مجدبة - وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ".أبو داود (4693), وصححه الألباني.
يعني كذلك نفوس الناس الذين خلقوا من هذه القبضة التي هي من جميع الأرض جاءت نفوسهم بحسب طبائع هذه التربة التي خلقوا منها .

وبهذه يعلم أن معاملة الناس على حسب طبائعهم سنّة نبوية تستجلب القلوب، وقد عامل النبي -عليه الصلاة والسلام- أصنافاً من البشر كانت في نفوسهم صعوبات، وكانت فيها مشاكسات، وفي بعضهم شّدة وغلظة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ –هذه تصلح للإهداء للنساء، في عطايا النساء، وتعطى للرجال ليعطوها نساءهم -، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِداً لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَامَ عَلَى الْبَاب.

فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ فَقَالَ:"يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ"، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ. البخاري (6132) .
فهذه ملاطفة وعطية وحسن استقبالٍ به تزول الشّدة، وتستصلح النفوس .

7.المدارة

عباد الله، علمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- مداراة الناس، وهذه التي تجعل العدو ولياً حميما، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: "بئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ ". – هذه فعلاً صفته من الذم -.
فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ – يعني لما دخل وجلس إليك اختلف الكلام عن التعليق عليه قبل أن يدخل عليك - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ"البخاري (5572).
هذه المداراة لهؤلاء العتاة، من الذي يريد هدايتهم مهمة لجلبهم إلى طريق الحق.

لم يتنازل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيءٍ من الدين، لم يقل عن باطلٍ إنه حق، أو عن حق إنه باطل، لم يغير الأحكام الشرعية من أجل هذا الرجل ولا من أجل غيره، المداراة شيء والمداهنة شيء آخر، المداراة لين الكلام، بشاشة الوجه، هدية، لأجل استمالة هؤلاء الأعداء، وهؤلاء العصاة، أما المداهنة فهي الثناء عليه بالباطل، وقول الباطل بين يديه ونحو ذلك، وأن الناس يحبون المتواضع وصاحب لين الجانب، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(المائدة: من الآية54). {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: من الآية159).

فاللين هو الذي جمعهم عليه إذاً، وهذا التواضع أيضاً، وعندما تستقبل أخاك فتوسع له في المجلس، المزدحم لا يجد مكانا يجلس فيه، وتدعوه بأحب الأسماء إليه، فإنه لا ينسى لك هذا المعروف، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " ثلاثة لا أُكافئهم – لا أستطيع أن أقابلهم في معروفهم -، رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليّ يريد السلام عليّ ".
أنا الذي يكون اسمي عالياً*** بين البوادي ظاهراً وبادياً

فاحفظ ودادي أيها المناديا *** إن كنت تريد مني وداديا

وهكذا يتودد الإنسان إلى هؤلاء الإخوان بما يستجلب قلوبهم، واجتماع قلوب المؤمنين من مقاصد الشريعة لأن الشريعة تريد أن يكون المجتمع الإسلامي متآلفاً مجتمعاً، وأن يكون يداً واحدة ولذلك فإن استعمال هذه الأسباب الشرعية عظيم جداً، ومنه السماحة في المعاملة . "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى". البخاري (2076).

يعني طالب بحقه وطالب بدينه، وهكذا التنازل عن الحقوق، وهكذا أيضاً العفو والصفح، ولا تستوي الحسنة {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت: من الآية34).
فإذا قطعوك صلهم، وإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم، وإذا ظلموك فاعف عنهم، وإذا اشتدوا عليك فعاملهم باللين، وإذا هجروك فاقترب منهم، طيب الكلام مع بذل السلام، مع الدعوة للطعام، تأتي بالنتائج العظام، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(آل عمران: من الآية134)، وكان بين حسن بن الحسن، وبين ابن عمه علي بن الحسين شيء من الخصومة، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله ( يعني من السب والشتم )، وعلي ساكت، فذهب حسن، فلما كان في الليل، أتاه علي بن الحسين فقال له: يا ابن عمي إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا، فغفر الله لك، والسلام عليك.
فالتزمه حسن، وبكى حتى رُثي له . سير أعلام النبلاء (4 / 397).

وقال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما، وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وَضع الحلم عن شريف شرفه ولا زاده إلا كرما .

8.حسن السمت واللباس

وممن يستجلب مودة القلوب أيضاً حسن السمت وحسن اللباس وطيب الرائحة، “إن الله جميل يحب الجمال” مسلم.
وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: " إنه ليعجبني الشاب الناسك، نظيف الثوب، طيب الريح".
فكيف بمن يأتي بيت الله بثوب النوم دون أدنى إزالة بما علق به، من بعد قيامه من النوم .

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: " ما رأيت أحداً أنظف ثوبا، ولا أشد تعهدا لنفسه، وشاربه، وشعر رأسه، وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا، وأشده بياضا، من أحمد بن حنبل".
وقد قال تعالى عن موسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}(طه:39) هناك محبة يلقيها الله، وهناك أسباب تكملها، وهذه المحبة التي يلقيها الله -عز وجل- فضلاً ونعمة منه لكن أساسها الإيمان، وإرضاء الله -عز وجل- ثم لا يضرك يا عبد الله أن تعلن محبتك لأخيك المسلم إن كنت صادقاً لأن ذلك مما يزيدها شدة، قال -عليه الصلاة والسلام- :"إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ" رواه الترمذي (3314) وصححه في صحيح الجامع.

وزاد في رواية مرسلة: “فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة”، وترك المراء ومجادلة الناس للتغلب عليهم وإظهار عوارهم في النقاش، وفضح موقفهم، ترك هذا المراء أيضاً مما يزيل النفرة ويبعدها، ويستجلب المودة، لأن المراء يقسي القلب، والنبي -عليه الصلاة والسلام- علمنا في الجملة من محاسن الأخلاق وطيب المعاشرة، واللطافة والزهد، ولين الجانب، ما نستجلب به قلوب من نعاشرهم، والإنسان اجتماعي بطبعه لا بد من أناس يعاشرهم، في البيت في المكتب، أقارب، في حضر في سفر . وقد أوصى أحد السلف ابنه فقال له:

" يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته.
فاحفظ عني:

ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ - الإغاثة -، فإن لك أجلاً لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئاً، فبذلك يتم سؤددك. جمهرة خطب العرب(1 / 120).

عباد الله، من الناس من يحاول أن يستميل القلوب بوسائل محرمة، كالسحر ومنه الصرف والعطف، وكالرشوة، وكالظلم إرضاء لمن يريد استمالته، فيظلم آخرين من أجله، المدح الكاذب والنفاق، والثناء بغير حق، الإسراف في الولائم من أجله، النميمة له ليتقرب إليه ويتحبب على حساب من نّم عنهم وظلمهم، السكوت عن منكراتهم.
كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ.

فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ" وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ . رواه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الناس:إرضاء الله ثم إرضاء الله ثم إرضاء الله .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة