الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السيرة النبوية والدعوة إلى الله

السيرة النبوية والدعوة إلى الله

السيرة النبوية والدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله تعالى عبادة من أشرف العبادات وعمل من أجَّل الأعمال، والدعاة إلى الله الذين يرشدون الناس إلى الخير ويبصرونهم بالحق في سيرة وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم قدرهم ومنزلتهم، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبيناً أجرهم: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) رواه مسلم، وقال: ( لَأَنْ يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمُرِ النَّعَمِ ) رواه البخاري، ومعنى حمر النعم هي: الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه، وقد نص على هذا النووي في شرحه لهذا الحديث .

ومعلوم أن سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهديه هما الميزان الذي توزن به الأعمال، فما كان منها موافقاً لهديه فهو المقبول، وما كان منها مخالفا لهديه فهو مردود، يقول سفيان ابن عيينة: " إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء، على خُلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل " .
وفي السيرة النبوية المنهج الصحيح والأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله، من حيث طريقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأخلاقه وآدابه وتواضعه مع المدعوين ورفقه بهم، إلى غير ذلك من الأمور التي هي من مقوِّمات الدعوة إلى الله، وقد قال الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي }(يوسف من الآية: 108 ) .
قال ابن القيم: " فلا يكون الرجل من أتباعه حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه، ويكون على بصيرة " .

الرحمة والرفق في دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:

الداعية الفظ الغليظ يبعد الناس عنه, ولا تبلغ دعوته غايتها وإن كان ما يدعو إليه حقاً وصدقاً, إذ الناس ينفرون من الغلظة ولا يقبلون صاحبها، لذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ( إنَّ الرفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانه, ولا ينـزع من شيءٍ إلا شانه ) رواه مسلم، وقال: (من يحْرَمُ الرفق يُحْرَمُ الخير كله ) رواه مسلم .
أما الداعية إلى الله على طريقة وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يعلم أن نبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ جاء رحمة للبشرية كلها ـ مؤمنها وكافرها ـ قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(الأنبياء الآية: 107}، ومن هنا كان لابد للداعية أن يكون رحيماً رفيقاً، ينبض قلبه بالشفقة على الناس وإرادة الخير لهم, ولا يكن همه أن يقيم عليهم الحجة والدليل، ويبين لهم بطلان ما هم فيه فقط، بل هو يسعى ويهدف إلى إنقاذهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى, ومن المعصية إلى الطاعة، متأسياً في ذلك برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟، إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري .
ومن خلال مقترح ملَك الجبال باستئصال وإهلاك المشركين الذين آذوه ولم يقبلوا دعوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين )، ورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه: ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) نرى منهجه وأسلوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشفقة والرحمة والرفق بمن يدعوه وإن تعرض له بالأذى، وهذا من شدة حرصه على هداية الناس .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان غلامٌ يهودي يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرض فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار ) رواه البخاري، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إنَّمــا مثلي و مثلُكم كمثل رجلٍ استوقد نارًا، فجعلت الدوابُّ والفراش يقعن فيه ,فأنا آخذ بحُجزكم وأنتم تقتحمون فيه ) رواه مسلم .

ولم تكن أقواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي سبيل دعوته إلى الله فقط، بل كان فعله وخُلُقه مع قوله وكلامه، إذ كيف يدعو الداعية إلى شيءٍ وهو لا يفعله ولا يطبقه على نفسه, فسلوك الداعي وأفعاله أكبر أثراً في المدعوين من أقواله, ومن ثم حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يخالف فعلُهَ قوْلَه تحذيراً شديدا، فقال: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون:يا فلان مالك، ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟, فيقول: بلى, كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ) رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَار، قُلْتُ: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟، فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟ ) رواه أحمد .
وكم عانت الدعوة إلى الله والأمة مِنْ دعاة خالفوا هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طريقة دعوته، وخالفت أفعالهم وأخلاقهم أقوالهم ودعوتهم، ولقد قال ابن القيم واصفا لهم: " علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس هلمّوا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم, فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له, فهم في الصورة أدلاء, وفي الحقيقة قطاع طرق " .

يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيحصل التسليمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ

إن السيرة النبوية هي السجل الكامل الذي يبين لنا حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما جرى له فيها من أحداث في مكة والمدينة، ويظهر لنا من خلالها كيفية دعوته وطريقة تعامله مع أصناف الناس، ـ المؤمن منهم والكافر، والطائع والعاصي ـ، ونستلهم منها أساليب الدعوة ووسائلها الصحيحة، لأنها تعطينا نموذجا حيّاً لمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن تتكرر مع الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان، فما مِنْ موقف يقع فيه الداعي، أو حدث يمر به أو مشكلة تواجهه، إلا ويجد مثلها ـ أو قريب منها ـ في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة