استكمالا لما ذكرناه في مختلف الحديث، يجدر بنا أن نوضح الفرق بينه وبين مشكل الحديث، حيث يتضح ذلك فيما يلي:
الفرق بين مختلف الحديث ومشكله:
مختلف الحديث يختص بمعارضة ظاهر حديث لظاهر حديث آخر، بينما مشكل الحديث أعمُّ من ذلك، فهو يعني: عدم ظهور المراد من الحديث لمعارضته مع دليل آخر صحيح، وقد يكون المعارض له آية، أو حديث، أو إجماع، أو قياس، أو عقل، وقد يكون سببه غموضٌ في دلالة لفظ الحديث على المعنى؛ لسبب في اللفظ، فيكون مفتقراً إلى قرينة خارجية تزيل خفاءه كالألفاظ المشتركة-التي يكون اللفظ الواحد له أكثر من معنى- وبهذا نستطيع القول بأن مختلف الحديث نوع من أنواع مشكل الحديث.
والعمل في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض من المهمات العلمية التي لا يحسنها كلُّ أحد؛ إذ يتطلب الأمر رسوخاً في علوم الفقه والحديث وأصولهما، ثم فهماً يؤتيه الله من يشاء من عباده، وسيأتينا نماذج ذلك إن شاء الله.
أسباب وقوع التعارض بين ظواهر الأحاديث:
ذكر العلماء - كابن خزيمة، ومن قبله الشافعي، وابن حبان - أسباباً لحصول التعارض ويتلخص كلامهم في أن أسباب التعارض تعود إلى جهتين:
ما يأتي من جهة الرواية:
كالاختلاف بسبب أن يروي كل واحد من الرواة الجزءَ الذي شهده من الخبر أو الواقعة، ويروي راوٍ آخر جانباً من القصة أو الخبر فيقع اختلاف في الروايتين، أو يكون الاختلاف بسبب أن للخبر راويان أحدهما شاهد والآخر ناقل فيروي الشاهد بما شهد والراوي بما نقل فلا تتطابق روايتهما، ولا شك أن رواية الشاهد مقدمة على الناقل، أو تكون إحدى الروايات تامة مستقصية، والأخرى ناقصة.
وما يأتي من جهة الدراية وهو أنواع:
من جهة المباحث الأصولية: كالاختلاف بسبب أن يكون أحد الحديثين عام والآخر خاص، أو يكون أحدهما مجمل والآخر مفسر، أو يكون أحدهما ناسخ والآخر منسوخ.
أومن جهة حصول القصور من المجتهد: كقلة تبحره في العلم، أو أن يكون له اعتقاد أو مذهب، فيقوي اعتقاده أو مذهبه ببعض الأحاديث التي يكون لها ظاهر مخالف لظواهر نصوص أخرى، فيظن القارئ أن الاختلاف راجع إلى النصوص، وهو في الحقيقة راجع إلى اعتقاد ورأي المجتهد، وقد يحصل الخلاف بأن يكون للحديث سببُ ورود يجهله المجتهد، أو يحصل من المجتهد تقصير في تتبع الروايات المتعلقة بالحديث؛ إذ لو استقرأ الروايات لوجد ما يزيل التعارض، ومن أعجب ما يطلع عليه الباحث في هذا الباب حين ينظر في فتح الباري لابن حجر العسقلاني، فهو من العجائب في استقراء الروايات والتوفيق بينها من داخلها.
طريقة أهل العلم في التعامل مع الأحاديث التي ظاهرها التعارض:
يمكن تلخيص ذلك في أربع طرق رئيسية وهي ( الجمع، ثم النسخ، ثم الترجيح، ثم التوقف)، وبيانها كالآتي:
أولا: الجمع: فإذا وقفوا على ما يوهم التعارض في ظاهره من الأحاديث، لم يسارعوا إلى إهمال أحدها بالترجيح، وإنما يجمعون بينها؛ لاحتمال أن يكون أحدها عاما والآخر خاصاً، أو أن يكون أحدها مطلقا والآخر مقيداً، أو أن يكون أحدها مجملاً والآخر مفسراً، والقاعدة معلومة في أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، قال النووي: ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها ، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها.
ثانيا: النسخ: وذلك في حال تعذر الجمع بوجه من الوجوه، فينظر في تاريخ الحديثين، فإن كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا فإنه يصار إلى المتأخر باعتباره ناسخاً للمتقدم، ولا بد من ثبوت التاريخ بعلم؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وكثيرة هي دعاوى النسخ في بعض الأحاديث ولكن العلماء لم يقبلوها؛ لافتقارها إلى العلم بالتاريخ.
ثالثاً: الترجيح: وذلك في حال تعذر الجمع والنسخ، فإن العلماء يلجؤون إلى الترجيح بين دلالات الأحاديث التي ظاهرها التعارض، ولهم طرق في الترجيح بمرجحات متعددة، منها ما يرجع إلى الراوي، وما يرجع إلى المروي، وما يرجع إلى الرواية قال الشافعي: ومنها ما لا يخلو من أن يكون أحد الحديثين أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بمعنى سنن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما سِوى الحديثين المختلفَين أو أشبه بالقياس فأي الأحاديث المختلفة كان هذا فهو أولاهما عندنا أن يصار إليه.
رابعاً: التوقف: وهذه آخر الطرق، وقلما يصل المجتهد إلى هذه المرحلة، لعدم إمكان العمل بهما جميعاً، ولا بأحدهما دون الآخر، لأن العمل بهما جمع بين المتناقضين، والعمل بأحدهما تحكم بغير موجب، ولم يتبق إلا التوقف حتى يتوصل المجتهد إلى مرجح يقضي بالعمل بأحدهما، والأمر نسبي بين المجتهدين، فقد يرى بعضهم وجهاً للجمع لا يراه الاخرون، ويرى بعضهم مرجحا لا يراه الآخرون وهكذا، والعلم بمراتب الأدلة وأحوالها ودلالاتها يفتح للمجتهد فتوح النظر، والموازنة بين الادلة، والناس في ذلك رتب ومنازل فمن وسع علمه رأى من وجوه الجمع والترجيح ما يبدد أمامه ظلمات التعارض، وأوهام التقابل بين الأحاديث، والقاعدة في ذلك: (وفوق كل ذي علم عليم).