خلق الله الإنسان وجعل له صورتين: صورة ظاهرة وهي الخَلق ، وصورة باطنة وهي الخُلُق ، وكما تفاوت الناس في صورة خَلقهم ما بين حسن وقبيح ، وجميل ودميم ، كذلك تفاوتت صورهم الباطنة المتمثلة في أخلاقهم تمام التفاوت أو أوسع .
الخلق وحسن الخلق
يعرف فلاسفة الأخلاق الخلق بأنه " الطبع والسجية" ، ولكن ليس كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال يدخل تحت مسمى الخُلق ، وإنما يعتبر خُلقا منها ما كان صادرًا عن قصد وإرادة ، وقابلاً للوصف بخير أو شر . وعليه فخلاصة تعريف الخلق هو أنه: هيئة راسخة في النفس ، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ، من غير حاجة إلى فكر وروية . فإذا كانت هذه الأفعال محمودة شرعًا وعقلا سُميت خُلقا حسنا، وإن كانت قبيحة مذمومة سميت خلقًا سيئًا.
وقال القرطبي في المفهم: الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعمل بها غيره ، وهي محمودة ومذمومة ، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك ، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ، ونحو ذلك والمذموم منها ضد ذلك.
وقال بعضهم : حسن الخلق هو: حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، و طيب القول، ولطف المداراة.
وقيل: هو أن تلين جناحك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك بوجه طليق.
وعلى العموم فإن حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عقدها، ومحور فلكها، وأكثرها إعدادًا وتأهيلاً لكسب المحامد والأمجاد، ونيل المحبة بين الناس والاعتداد. ومهما حصَّل الإنسان من الفضائل والخصائص التي تؤهله كفاءته لبلوغها، ونيل أهدافها، كالعلم والأريحية والشجاعة ونحوها من الخلال الكريمة. بيد أن جميع تلك القيم والفضائل، لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار وسمو المنزلة، ورفعة الشأن، إلا إذا اقترنت بحسن الخلق، وازدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضاء الباهر، فإذا ما تجردت عنه فقدت قيمتها الأصيلة، وغدت صورًا شوهاء تثير السأم والتذمر.
ولحسن الخلق في الإسلام مكانة خاصة ، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخص رسالة الإسلام بأنها تتميم مكارم الأخلاق كما في الحديث : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (رواه أحمد وصححه ابن عبد البر) . وآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم تنضح بالأمر بحسن الخلق وتعظيم شأن أهله، وأنهم أكمل الناس إيمانا ، وأقربهم وأحبهم إلى الله ورسوله ، وأن ثوابهم في الدنيا عظيم وفي الآخرة أعظم وأكبر وأكرم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهمخلقا" رواه الترمذي وحسنه.
وقال عليه الصلاة والسلام : " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، الموطؤون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون"
وكفى بحسن الخلق شرفا وفضلا، أن الله عز وجل لم يبعث رسله وأنبياءه للناس إلا بعد أن حلاهم بهذه السجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصياتهم.
ولقد كان سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم ) المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من كرائم الفضائل والخلال. فقد كان أجود الناس كفّا، وأرحب الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابة، ومن خالطه فعرفه أحبه ، وكما وصفته الصادقة البرَّة أمُ المؤمنين خديجة رضي الله عنها قالت : "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق " ، وحسبك أن تذكر ما أصابه من قريش، فبعد أن تألبت عليه، وجرعته ألوان الغصص، حتى اضطرته إلى مغادرة أهله وبلده، فلما نصره الله عليهم، وأظفره بهم، لم يشكـّوا أنه سيثأر منهم، وينكـّل بهم، فما زاد أن قال: ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وبمثل هذه الأخلاق استطاع أن يملك القلوب والعقول، واستحق بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عز من قائل: ((وإنك لعلى خلق عظيم)).
لقد تمثل الأخلاق فزانها حتى أصبح خلقه القرآن وصار قرآنا يمشي بين الناس ، ثم أمر أصحابه أن يتزينوا بصالحها ويتمسكوا بأحسنها : فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من شيء يوضع في الميزان أثقلُ من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلُغُ به درجة صاحب الصوم والصلاة "
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال معاذ : " يا رسول الله أوصني ، فقال صلى الله عليه وسلم : " استقم وليحسنُنْ خُلقك للناس ".
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن .
وكان حسن الخلق مطلبا نبويا يدعو ربه أن يجمله به ويديمه عليه فكان من دعائه عليه الصلاة والسلام : " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي " (أحمد وصححه ابن حبان) ، وكان يقول: " واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" (رواه مسلم).
لقد صار حسن الخلق مطلبا ملحا للأمة تعود به إلى محاسن الإسلام ، وتظهر به مكارم أخلاقه ، وتسترجع به سالف عزها وسابق مجدها، فقد ملك المسلمون في قرونهم الأولى ـ قرون الخير أعلى مستوى من التربية الأخلاقية ، وكان الناس يدخلون في دين الله أفواجا لما يرون من حسن المعاملة ، وجميل الأخلاق ، و حين بدأ الانحراف عن هذا المنهج القويم وساءت أخلاق الناس ؛ فُقدت القدوة وضاعت القيم ، وتبدلت المفاهيم ، ولقد صدق الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حين قال : ( ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).