الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أخلاق المسلمين بأقلام المؤرخين الغربيين

أخلاق المسلمين بأقلام المؤرخين الغربيين

أخلاق المسلمين بأقلام المؤرخين الغربيين

لا يكاد المرء يدرك قيمة أن هذه الأمة هي "خير أمة أخرجت للناس" قدر ما يدركه حين يقرأ في كتب المستشرقين - لاسيما من أنصفوا - وفي كتب الرحالة الغربيين، فالقوم يدركون مما عندنا أشياء لا ننتبه نحن لها للاعتياد عليها، كما أن أبصارنا وأبصار المصلحين فيمن قبلنا تتجه إلى العيوب والمساوئ لإصلاحها، فيقل الشعور العام بأن أمتنا - خصوصا في أوقات ازدهارها - إنما كانت فردوس الأرض في عين الآخرين.
والمادة المكتوبة في هذا الموضوع غزيرة جدًا، وقد كُتِب فيها بحوث كثيرة، ولهذا التقطنا من بينها تنويعات بين العصور، وتنويعات في وجوه الأخلاق، وتنويعات من الكتب أيضًا.

العدل والمساواة:
قال الأديب والفيلسوف البريطاني الشهير توماس كارلايل: "في الإسلام خُلَّةٌ أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء، والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضًا حتمًا على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل، فتكون جزءًا من أربعين من الثروة، تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين، جميل والله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة، يصيح من فؤاد ذلك الرجل محمد، ابن القفار والصحراء".

رحمة المسلمين بالمنكوبين:
ربما تكون حقبة الحروب الصليبية ثاني أكثر حقبة شهدت إسلام المحاربين بعد حقبة الفتوح الإسلامية، وقد سجَّل المستشرق الإنجليزي الشهير "توماس أرنولد" في كتابه العديد من أخبار التحول للإسلام من بين صفوف الصليبيين الذين قدموا إلى الشرق أصلاً لحرب المسلمين، إذ لم يجد هؤلاء بعد آلام الحرب من يحنو ويعطف عليهم إلا في معسكر المسلمين، فأسلم كثيرون منهم، وسجل ذلك كافة الغربيين الذين ذهبوا إلى الشرق حينئذ، حتى لم يعد من حلٍّ أمام هذه الظاهرة إلا أن أرسل القديس أموري دي لاروش، وكان رئيس فرسان المعبد، إلى أوروبا (664هـ = 1266م) يلتمس من البابا ونوابه في فرنسا وصقلية أن يمنعوا "الفقراء والشيوخ والعاجزين عن حمل السلاح من عبور البحر إلى فلسطين، لأن أمثال هؤلاء الأشخاص كانوا يتعرضون إما للقتل أو الأسر أو لأن يفتنهم العرب عن دينهم"، وحتى من لم يدخل في الإسلام منهم آثر أن يبقى في بلاد المسلمين وتحت ظلهم ورعايتهم، فقد كانوا "راضين كل الرضا عن سادتهم الجدد".

وتسجل المستشرقة الألمانية "زيجريد هونكه" وثيقة مهمة كتبها أسير صليبي للملك "الكامل الأيوبي" بعد المعاملة الكريمة منه للأسرى من بعد ما كان منهم من إجرام في دمياط، تقول هونكه: "لما انتصر السلطان الكامل على هذه الحملة سنة 1221م أكرم أسراهم، ولم يقتص منهم: العين بالعين، والسن بالسن، وإنما أطعمهم في مسغبة أربعة أيام طوالا، مرسلاً إلى جيوشهم المتضورة جوعًا كل يوم ثلاثين ألف رغيف، ومواد غذائية أخرى، وشهد بهذا الإكرام أحد هؤلاء الأسرى - عالم الفلسفة اللاهوتية أوليفروس من كولونيا نهر الراين بألمانيا - فكتب يقول للملك الكامل:"منذ تقادم العهود لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدًا طاغية، ولا سيدًا داهية، وإنما عرفناك أبًا رحيمًا، شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذًا في كل النوائب والملمات، ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله، إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم، وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم، وكدنا نموت جوعًا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بها من خصاصة، وأسدوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان".

معاملة المسلمين لغير المسلمين:
هذه النقطة تحديدًا أفاضت فيها كل المراجع التي تحدثت عن المسلمين، إذ كان هذا الموضوع من أظهر وأوضح الفروقات بين مجتمع المسلمين وغيرهم من المجتمعات، وقد أخذنا ثلاث مقتبسات فحسب من بين آلاف الصفحات المكتوبة في هذا الموضوع:
1. يقول هنري دي كاستري - الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر -: "أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي - بعد ذلك - أن معاملة المسلمين للمسحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذا ذاك، وخصوصا أن الشفقة والحنان كان عنوان الضعف عند الأوربيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجهًا للطعن فيها على وجه العموم".

2. ولقد كان لهذا أثرًا كبيرًا كما يقول المستشرق الألماني آدم ميتز: "وجود النصارى بين المسلمين كان سببًا لظهور مبادئ التسامح، التي ينادي بها المصلحون المحدثون، وكانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة - وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق - مما أوجد من أول الأمر نوعًا من التسامح، الذي لم يكن معروفًا في أوروبا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان، أي دراسة الملل والنحل على اختلافها، والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم".

ولهذا فضَّل كثير من غير المسلمين الحكم الإسلامي على حكم طغاتهم، ومن كان مضطهدًا في بلده هرع هاربًا إلى بلاد المسلمين، يقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "في إيطاليا عبرت كثير من الأقاليم لحكوماتها المستبدة عن أنها ترحب من كل قلبها بغزو تركي مثلما فعل بعض البلقانيين المسيحيين"، ولقد "لجأ أتباع مذهب (كالفن) (1509 - 1564م) في هنغاريا وترنسلفانيا، وبروتسنت سيليزيا، وقدماء المؤمنين من قفقاس روسيا إلى تركيا، أو تطلعوا إلى الباب العالي في هروبهم من الاضطهاد الكاثوليكي أو الأرثوذكسي، وذلك مثلما فعل اليهود الإسبانيون قبل ذلك بقرنين".

المسلمون والرفق بالحيوان:
يقول المستشرق الفرنسي المعروف جوستاف لوبون: "يُعامل الشرقيون الكلاب وجميع الحيوانات برفق عظيم، ولا ترى عربيًّا يؤذي حيوانًا، وإيذاء الحيوان من عادة سائقي العربات في أوروبا، وليس من الضروري – إذن - أن يؤلف العرب جمعيات رفق بالحيوان، والحق إن الشرق جنة الحيوانات، وفي الشرق تُراعى الحيوانات الكلاب والهررة والطيور ... وتحلق الطيور في المساجد، وتوكِّر في أطنافها مطمئنة، وتأوي الكراكيُّ إلى الحقول من غير أن تُؤذى، ولا تجد صبيًّا يمسُّ وكنًا، وقد قيل لي في القاهرة بصيغة التوكيد - وهذا يدل على ما ذكره بعض المؤلفين - إن في القاهرة مسجدًا تأتيه الهررة في ساعات معينة لتتناول طعامها وفق شروط أحد الواقفين منذ زمن طويل، وجزئيات كتلك تدلُّ على طبائع الأمة، وتدلُّ على درجة افتقار الأوربيين إلى تعلم الشيء الكثير من حلم الشرقيين وأُنسهم".

أسف وحسرة!:
ويتحسر "جوستاف لوبون" على أن المسلمين هُزِموا أمام "شارل مارتل" في معركة بلاط الشهداء، ويردّ على من يعتبر هذا إنقاذًا للبشرية بقوله: "لنفرض جدلاً أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جوّ شمال فرنسا غير بارد ولا ماطر كجو إسبانيا، ، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوروبا؟ كان يصيب أوروبا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوروبا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوروبا بالدماء عدة قرون".

ومثله يرى الكولونيل البريطاني رونالد بودلي - وهو الذي تغيرت حياته لما عاش بين البدو المغاربة فأحبهم وأثنى عليهم وألف كتابًا في سيرة النبي - أنها مأساة لكنه يرى أن الأوروبيين قومًا معقدين، ولهذا لم يكن لينتشر بينهم الإسلام، يقول: "ما كانت أوروبا لتعتنق الإسلام لو أن شارل مارتل قد هزم في تور (مدينة قريبة من موقع معركة بلاط الشهداء)، فهذا الدين يوائم أناسًا غير معقدين؛ أناسًا أرواحهم قريبة من الطبيعة، والعرب حقًا غير معقدين، وكان محمد غير معقد"، أما المسلمون فقد "كانوا كالغيث الذي يخصب المكان الذي ينزل فيه"

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

من ذاكرة التاريخ

أبو المعالي الجويني إمام الحرمين

الإمام الجويني أحد كبار أئمة المذهب الشافعي، مجمع على إمامته متفق على غزارة علومه وتفننه فيها. قضى معظم حياته...المزيد