العلامة ابن خلدون عبدُالرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن خلدون، ولد عام 732هـ، وتوفي 808هـ، وقد صنّف المصنفون من أهل المشرق والمغرب حول جهود هذا العالم الفذ وآثاره، إلا أن مآثره تبقى بحاجة إلى مزيد من التنقيب والتفتيش، وإن الناظر في تراث ابن خلدون؛ يلمح بكل وضوح معاني العمق والإنصاف في القضايا والمسائل التي ذهب إليها، ويجده قد اهتم بكل ما له علاقة بمعاش الناس وحياتهم وما يصلح لهم ويصلحهم، وقد تحدث عن قضايا الأمم والشعوب وقبائلهم، وتاريخهم، وما يتعلق به من علوم ومعارف، إلا أن ما كتب عن مكانته عند علماء الحديث، وأثره وجهوده في علوم الشرع كالحديث والفقه والتفسير والعقائد ما زال قليلاً، إن لم يكن معدوماً، فهو بحاجة إلى الكثير والكثير ليُعطي هذا العالم حقه منه.
العصر الذي عاش فيه:
العصر الذي عاش فيه ابن خلدون عصرٌ متقلبٌ كثيرُ الأحداثِ، لعلها تشبه ما تمر به أمتنا في أيامنا هذه، حيث تظهر فيه سمة التشتت والوهن في العالم الإسلامي، وذلك بسبب النزاعات السياسية والمذهبية والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع في كل مكان في المشرق والمغرب، وقد ذكر ابن خلدون الكثير عن تلك الأحداث، ويمكن إجمال صورة ذلك العصر بأن أمصار العالم الإسلامي أصبحت في حالة من التفكك وعدم الاستقرار، وفيه بدأ المد الغربي الخارج من ظلماته في ذلك العصر ينظر بعين الشوق إلى محاولة بسط سيطرته على مقدرات الأمة الإسلامية وخيراتها، حيث خرجت أجزاء من بلاد الأندلس من حوزة العرب إلى حكم الأسبان، وبقيت منها منطقة صغيرة في يد بني الأحمر، تشمل غرناطة وما يحيط بها، وكانوا رغم كل هذا في تناحر وخصام.
وفي هذا العصر كانت بلاد المغرب مقسمةً إلى ثلاث دول، وهي دولة (بني مَرين) في المغرب الأقصى، وعاصمتها (فاس). ودولة (بني عبدالواد) في المغرب الأوسط، وعاصمتها (تلمسان). ودولة (بني حفص) في المغرب الأدنى، وعاصمتها (تونس) وكانت هذه الدول في تقلّص وتمدّد، حيث كانت كل أسرة من هذه الأسر تحاول السيطرة على الدول المجاورة كلما وجدت إلى ذلك قوة وسبيلاً. وليس حال أهل المشرق بأفضل من ذلك.
في مثل هذا الجو المأساوي المظلم وُلد وعاش ابنُ خلدون، وهو أحد العلماء الذين كان لهم الفضل في تأسيس كثير من العلوم الحياتية كعلم الاجتماع وغيره، ويبدو تجديده في علم التاريخ واضحاً من خلال كتابه القيم (العبر) حيث يستقرئ أحداث التاريخ، الماضي منه والحاضر بطريقة علمية أصيلة، فيحققها ويستبعد منها ما يتبين له فيه من تهافت.
يمكن تقسيم حياة ابن خلدون إلى أربعة مراحل:
مرحلة النشأة والتلمذة:
وهي ما بين (732هـ -751هـ) وقد قضى هذه المرحلة في مسقط رأسه بتونس، في حفظ القرآن الكريم وتجويده بالقراءات والتعلم على والده وغيره من شيوخ بلده حيث يقول: "أما نشأتي فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعتُ". وفي هذه المرحلة من حياته في سنة (749هـ) حدث الطاعون الجارف، أو الفناء الكبير الذي عم معظم أجزاء العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وهلك فيه أبواه وعددٌ من الأعيان والصدور وجمعٌ من أساتذته الذين كان يأخذ عنهم العلم، فترك في نفسه الشيء الكثير.
مرحلة الوظائف
وهي ما بين (751- 776هـ) فيها تنقل بين تونس وفاس وبجاية وتلمسان وبسكرة، وبعض بلاد الأندلس، ويمكن إجمال أهم هذه الوظائف فيما يلي: ففي سنة (751هـ) تولى أول وظيفة، وهي كتابة العلامة في عهد ابن تافراجين الوزير الحفصي في تونس في ذلك الوقت، وفيها عينه السلطان (أبو عنان) عضواً في مجلسه العلمي، وفيها وجد الفرصةَ للقراءة على العلماء الذين كانوا قد خرجوا من تونس إلى فاس بسبب الطاعون، وفي هذا يقول: "وعكفت على النظر والقراءة ولقاء المشيخة من أهل المغرب وأهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة، وحصلت على الإفادة منهم على البغية..." وفيها تعرض للسجن لمدة عامين (758-760هـ) بسبب وشاية من أعدائه عند السلطان أبي عنان حيث يقول: "كان اتصالي بالسلطان أبي عنان آخر سنة ست وخمسين، وقربني وأدناني واستعملني في كتابته، حتى تكدر جوي عنده..." وقال: "وكان فيما أنمي إليه أني داخلته في ذلك، فقبض علي وامتحنني وحبسني وذلك في ثامن عشر صفر سنة ثمان وخمسين.
وفي الفترة بين (765 – 766هـ) خرج ابن خلدون فيها إلى الأندلس، وكان سلطانها في ذلك الوقت (محمد بن يوسف بن إسماعيل) ثالث ملوك بني الأحمر، وكان وزيره (لسان الدين بن الخطيب) الذي كانت تربطه بابن خلدون صداقة قديمة، فاهتم به، ولعل من أهم الأعمال التي قام بها في هذه الفترة أن السلطان أرسله إلى قشتالة لمقابلة الملك النصراني لإبرام صفقة معه وبناء علاقات بينهما، فقام بالمهمة خير قيام، وسُرَّ منه ملك قشتالة، وأعطاه الكثير من الهدايا وعرض عليه البقاء معه، وكافأه وزاد من رزقه وتحسنت بذلك أحواله، ثم ساءت بعد ذلك العلاقة بينه وبين صديقه ابن الخطيب بسبب الدسائس بينهما، وكان لابن الخطيب في ذلك الوقت مكانة مهمة عند السلطان (محمد بن يوسف) مما أثر على رأي السلطان، فحدثت بينهما جفوة انتهت بخروجه من الأندلس، ورجوعه إلى فاس.
أما الفترة بين (767 – 774هـ) فقد ابتعد ابن خلدون فيها عن الوظائف السياسية، حيث عرض عليه الأمير (أبو حمو) سلطان تلمسان منصباً رفيعاً فرفض ابن خلدون ذلك، لأنه كان قد عزف عن شؤون السياسة في ذلك الوقت، وكان يرغب في التفرغ للعلم.
مرحلة التفرغ للتأليف:
وتبدأ هذه المرحلة في سنة (776هـ) حيث نزل ابن خلدون في قلعة ابن سلامة، وعكف على تأليف كتابه المقدمة، ثم كتاب العبر، وقد جاء ذلك في مقدمته، حيث يقول: "أتممت هذا الجزء الأول بالوضع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدة خمسة أشهر، آخرها منتصف عام (779هـ) ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم".
مرحلة الانتقال إلى مصر:
وتبدأ هذه المرحلة من أواخر سنة (784هـ) وتستمر إلى حين وفاته سنة (808هـ) حيث قضاها في المشرق، وقد عمل خلالها في سلك القضاء والتعليم في الأزهر الشريف، وغيره من المدارس والمساجد الموجودة في مصر في ذلك الوقت. وقال في وصفها: " فرأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه..." وفي هذه المرحلة لا يمكن إغفال ما حصل معه من شدة وألم، بسبب هلاك جميع أفراد أسرته في البحر، وقد وافق ألماً آخر فقال معبراً عنه: " فكثر الشغب عليَّ من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من الرعد فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود فعظم المصاب والجزع".
وفي عام (803هـ) التقى القائد المغولي تيمورلانك الذي جاء لاجتياح العالم الإسلامي في ذلك الوقت، رداً على معركة عين جالوت، فوصلت جيوشه إلى حلب فأرسل إليه سلطان مصر وفداً لمفاوضته حتى يرجع عن دخول الشام، وكان على رأس هذا الوفد ابن خلدون لدهائه وقوته في مثل هذا الأمر، وقصته معه مشهورة، ومما جاء في وصفه له، قوله: "...إنما هو شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث واللجاج بما يعلم وبما لا يعلم، عمره بين الستين والسبعين»
وفاته: توفي ابن خلدون يوم الأربعاء، في الخامس والعشرين من رمضان عام (808هـ الموافق لعام 1406م) ودفن في مقابر الصوفية في القاهرة من أرض مصر.
بين المحنة والمنحة:
رغم قساوة أحداث ذلك العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، ورغم شدة حلكته إلا أن ذلك لم يضعف من عزيمته، بل لقد كانت تلك الأحداث بمثابة الحافز الذي جعله يصوغ نظريات، ويرسم الطريق لمن بعده، فكان ينظر من خلال ما عاين في حياته بعين الحسرة والألم، وينظر بعينه الأخرى المليئة بالأمل إلى مستقبل يتمناه، ليخرج من تلك الأحداث بحلول يراها تساهم في عملية الإصلاح لجيله وللأجيال الإسلامية من بعده، وأعجبني في هذا المقام وصف الدكتور عبدالحليم عويس؛ إذ يقول: «إن ابن خلدون لم يكن رجلاً يستسلم للفكر الساكن، ولا للواقع الجامد، كما لم يكن رجلاً يقف متفلسفاً أمام الوقائع، أو مسجلاً لها فحسب، بل كان رجلاً من صنّاع التاريخ، يغوص فيه مهما كانت الأوحال والأخطاء، ويتقلب يميناً ويساراً، لعله يجد ضالته، يتقلب بين ملوك الطوائف لعله يجد فيهم راشداً، أو لعله يستطيع أن ينفخ في جذوة الدولة الأموية الأندلسية المنطفئة، وقد ذاق الرجل السجن والتشريد، ويئس من الناس، ومال إلى العزلة، وكان يملك عقلاً كبيراً قادراً على التفاعل الخلاق، ليس بالثورة ولا بالخيانة للتراث، ولا بالاستعلاء عليه، ولا برميه بالماضوية والجمود، والتاريخية الجامدة، ولكن ببعث الروح فيه، والانطلاق من قاعدته، كما ينطلق الصاروخ إلى الآفاق من قاعدة صلبة مثبتة بالأرض".
ويضف د. عويس حول صمود ابن خلدون أمام هذه المحن وحسن تصرفه واتصاله بالقيم المؤثرة: " لقد كان عصر ابن خلدون عصر تقليد وجمود، لكن ابن خلدون أحسن القفز إلى المصادر الأصلية، بعيداً عن ضغوط الواقع الجامد، وعن وطأة اللحظة التاريخية بكل أثقالها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأحسن الاتصال المباشر بالقيم والأفكار الدائمة الحياة في القرآن والسيرة والسنة، وعصور الألق والازدهار، والتجارب الوضيئة والمستمرة في العصور» هذا هو الواقع الذي عاشه، وهذه هي معطيات ذلك العصر، فكان كما ينبغي أن يكون، لا تعيقه الأحداث، ولا تحبطه الآلام، إنما تشد من عزمه وعزيمته، وترفع فيه معاني الشوق نحو النجاح، مقتدياً في كل ذلك بمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته العطرة، فاهماً لواجبه، عارفاً لوجهته، ينظر بمنظار الأمل بعيداً عن أنواع التشاؤم والخذلان، ويرى الأمور على حقيقتها، فيطلق أفكاره بين الناس قولاً وفعلاً، فيأخذونها بكل شوق وشغف، حتى تصبح ديدنهم، ويلتفون حولها، ويلتف حوله العلماء والمفكرون فيكونون قدوة عملية لأمة واحدة، بهذا وبهذا فقط يمكن لهذه الأمة أن تعود، ويمكن لمسيرتها أن تكتمل. هذا والله تعالى أعلم.