الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أزمة الثقافة العربية المعاصرة

أزمة الثقافة العربية المعاصرة

أزمة الثقافة العربية المعاصرة

ماذا تشكل الثقافة في حياتنا، وما هو دور وزارات الثقافة في عالمنا العربي، وهل منصب وزير الثقافة فعلي أم شكلي من مقتضيات مجلس الوزراء .. أسئلة مطروحة في الأذهان، تأخذ حيزا بعيدا جدا في اهتمامات المواطن العربي المثقل بأعباء الحياة وهموم الواقع.
وإن كانت الثقافة العربية تمر بأزمة فما هي إلا واحدة من حزمة أزمات جسام اعتاد عليها الفرد من المحيط إلى الخليج، لأن علينا أن لا ننسى أن نسبة الأمية مرتفعة للغاية في العالم العربي، وكما يقول د. طارق عبد الباري: "ولو أن هذا الكم الكبير من البشر قد ضاع حظه في التعليم مرة وسقط من اعتبارات العمل الثقافي والتثقيفي مرة أخرى لأنه فقد حظه في التعليم فسنجد أنفسنا أمام جريمة ضد الإنسانية ومسئولية تاريخية تجاه شعوب تتساقط تباعا وبتسارع مذهل في هوة سحيقة من التخلف تجاوزتها البشرية المتحضرة منذ قرون طويلة".

وعلى المستوى الفردي يجد المثقف العربي في أغلب الأحيان أن المردود الواقعي من ثقافته ضحل للغاية في بيئة غير معنية بهذه الشريحة المتميزة في المجتمع، ويصف الأستاذ علي عواد الكردي هذه الظاهرة بقوله: "في انكسار المعرفة العامة يختل التوازن الذهني في بيئة تكتظ فيها الكثير من الأمراض والقيم الهزيلة والمتخلفة والاهتزازات العنيفة .. بيئة جعلت التسقيط والتشويه والإقصاء سبيلاً لها، الأمر الذي جعل المثقف الحقيقي -إن وجد- يدفع ثمن باهظا في مجتمع كهذا".

وثمة فارق جوهري بين الرسالة التعليمية والرسالة الثقافية، فالهدف الرئيسي من العملية التعليمية هو تكوين منظومة معرفية تتميز بالتوحد المعرفي قدر الإمكان قادرة على تغذية الرافد المهني المطلوب لنمو المجتمع ومسيرته النهضوية والحضارية مثل شريحة الأطباء والمهندسين والزراعيين والمعلمين ... وهكذا
أما الرسالة الثقافية فمعنية ببناء شخصية وهوية الفرد، وهي محكومة بالتنوع الطبيعي للحياة الإنسانية والذي تفرضه إلى حد كبير التقاليد والأعراف والجغرافيا الثقافية والملابسات التاريخية والهوية الدينية والعقدية .. ومن أمثلتها الاهتمام بأخلاقيات المهنة لا بأصولها وقواعدها الاحترافية، ولا شك أن الأخلاقيات فرع من السلوك الثقافي الراقي.
فالرسالة الثقافية معنية إلى حد كبير بنضج الوعي الإنساني وتدعيم الإطار التربوي والأخلاقي وضبط المفاهيم أكثر من اعتنائها بالوسائل المهنية البحتة.
لذلك يمكن القول بأن كل مثقف متعلما، وليس كل متعلم مثقفا، وأن حاجة المجتمعات للوعي الثقافي لا تقل عن حاجتها للوعي التعليمي، ولذلك كان المفكر الجزائري (مالك بن نبيّ) يقول: «السّياسة عندما تُمارس بدون مرجعيّة ثقافيّة تتحوّل إلى مجرّد عنتريّات ولغو نضاليّ».

الأمية الثقافية:
الأمّية الثّقافيّة تعني افتقاد الحركية والمرونة فكرا وممارسة في التّعامل مع الذّات ومع الآخر، مع الماضي الموروث، ومع الحاضر ومستحدثاته، مع مفردات الحضارة ومنجزاتها .. هي إذن عين التّحجّر الفكريّ والعقائديّ، والتّزمّت الدّينيّ والقوميّ والأيديولوجي والمذهبيّ، وضيق الأفق بكافّة أشكاله، والتّعصّب الأعمى لهذا الطّرف دون سواه، مع غياب الإبداع وفقر الإنجازات.
وتنتشر الأمية الثقافية -للأسف- في منطقتنا العربية بمعدلات مخيفة بين أوساط حملة الشهادات التعليمية، نتيجة الاقتصار على المقررات الدراسية الرسمية أو الأكاديمية وتجاهل التزود الثقافي الحر، سواء عن طريق القراءة الحرة والاطلاع المستمر، أو عن طريق متابعة المسارات الإعلامية والرقمية الهادفة والمتخصصة كل في مجاله، فضلا عن مواكبة التطور المعرفي العالمي اليومي سواء عن طريق وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت أو الفضائيات المعنية أو الصحف والمجلات الرصينة وحضور الندوات الفكرية والمعارض وغيرها من روافد الثقافة المعاصرة.

ولا تكاد دولة في العالم إلا ولديها معاناة بشكل ما أو درجة ما من درجات الأمية الثقافية. فالفرنسيون يشكون ويضجون من انحدار ثقافة الطالب الجامعي إلى مستويات اعتبرتها صحيفة لوموند «مرعبة». كما تزخر الصحف الأميركية بالعديد من الإحصاءات التي تذهب نفس المذهب.
ورغم أننا في الوطن العربي لا نمتلك رصدا دقيقا لمدى تفشي الأمية الثقافية إلا أن المراقبين لا يسعهم إلا وصف الأمر بالبشاعة والشناعة والكارثة، خاصة في ظل تدني مستوى الخدمات التعليمية في كثير من المناطق، إضافة إلى عوامل التوترات السياسة والاختناقات الاقتصادية.
وفي مقارنة حالنا الثقافي مع الغرب يقول الأستاذ حسين الوحيلي: "على أن أوجه المقارنة تزداد تتباعدا عندما تصل هذه الأمية الثقافية إلى الدراسات الأكاديمية ومستوى الأساتذة والطلبة على حد سواء. ففي الغرب -كما يعلم الجميع- معايير صارمة لمنح الشهادات الثانوية والجامعية، ولا يمكن أن ينحط مستوى التعليم إلى ما دون هذه المعايير وإلا تحول الغرب أو بعض دوله إلى دولة من العالم الثالث تستطيع أن تتحايل على نفسها فتنشئ عدة جامعات وأكاديميات ثم تستورد المهندسين والأطباء الأكفاء من الخارج وذلك عين ما يحدث في بلادنا وبقية البلدان العربية".

تضميد الجراح الثقافية:
على المستوى الفردي لابد من ترسخ قناعة أن الشهادة الجامعية ليست نهاية المطاف المعرفي، خاصة وأن الطالب في الوقت الحالي قارئ غير جيد للثقافة ولا تستهويه الكتب الثقافية بصورة عامة، والبعض منهم يحصل على شهادة البكالوريوس بدرجة (أمي) والأمية هنا لا تعني عدم القراءة والكتابة، وإنما تعني عدم حصوله على المعرفة الكافية والوافية، وإذا ما انخرط في الجانب التطبيقي -خاصة عندما يكون مدرساً- نجده يعتمد اعتمادا كلياً على الملخصات، فإذا سأله طالب سؤال خارج هذه الملخصات تراه يتلعثم ولا يستطيع الجواب لمحدودية معلوماته.
يقول الدكتور أسعد جواد يوسف: "المثقف الحقيقي هو من يعرف كل شيء عن شيء، وهو ما يعرف الآن بالتخصص الدقيق، وشيئاً عن كل شيء من أجل تكميل مرتكزاته الثقافية والظهور بشخصية مثقفة تمحو عنه صفة الأمية .. مثال ذلك نجد كثيرا من أساتذة الجامعات لديهم تخصصات دقيقة لكنه حصر نفسه في زاوية التخصص، وابتعد عن الأخذ بمفاهيم الحياة المختلفة وتمثلها الأمر الذي جعله غير قادر على مواكبة الحياة، فهو يعرف بتخصصه لكنه يجهل التعامل مع الحاسوب والانترنت الأمر الذي جعله أميا في هذا الباب، في الوقت الذي نجد العالم فيه قد بلغ ما بلغ في هذا المضمار فصير العلم بيده قرية صغيرة، فعلى الأستاذ ألا ينسى الحياة وفهمها ومكوناتها الثقافية حينما يريد لنفسه أن يتخصص في مجال معين، فالحياة كل لا يتجزأ، وبعضها يكمل البعض الأخر".

أما على صعيد السياسات الحكومية الرسمية فينبغي الاهتمام بإعداد برامج ومؤسسات لنشر مبادئ العلوم وتبسيطها وإجراء المسابقات التنافسية وفتح باب النقاش العلمي ووضع خطط تنموية واستراتيجية تساعد في تحقيق الأهداف والطموحات مما يعطي ثماراً جيدة تنمي المجتمع وتلبي أهدافه وطموحاته واحتياجاته وتساعد على متطلبات الرقي والتقدم لكي تجعل أفراد المجتمع ينعمون بالعيش الآمن والرفاهية والازدهار.
كما يمكن أن نستلهم في هذا طريقة «التعليم التكاملي المستمر» التي وضعتها اليابانية (يوشيكو نومورا)، قاصدة بها التحول من التعليم المبنى على المعرفة إلى التعليم الذي يؤسس على الحكمة، والتحول من التعليم الذي يركز على المعرفة العقلية إلى تعليم شامل للشخصية ككل، والتحول من تعليم الثقافة التقليدية لخلق ثقافة جديدة، والتحول من التعليم المرتبط بسنوات المدارس إلى تعليم متكامل مستمر على مدار العمر. وتؤمن هذه النظرية بأن كل شيء في الحياة هو مادة للتعليم الذاتي وأن تعليم الطفل يجب أن يصاحبه تعليم الوالدين والمدرس أيضاً.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة