الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الخراج بالضمان

الخراج بالضمان

الخراج بالضمان

من الأصول النبوية الجامعة، والقواعد الكلية النافعة، أحاديث هي بمثابة القوانين العامة الحاوية لمسائل متفرقة من أبواب الفقه، ولا غرابة فالنبي صلى الله عليه وسلم صاحب الكلم الجامع النافع.

فمن أحاديث الأحكام الكلية، التي جرت على ألسنة الفقهاء في استدلالاتهم وتفريعاتهم وتآليفهم، ما جاء عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: « أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرد عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-«الخراج بالضمان».

تخريج الحديث:

الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وغيرهم من أهل الحديث، ولم تتفق كلمتهم في الحكم على الحديث، فقد ضعفه البخاري وأبو داود؛ لأجل مسلم بن خالد الزنجي، فقد حكم عليه البخاري بأنه ذاهب الحديث، بينما حكم بصحته الترمذي، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقالوا: بأن مسلما الزنجي متابع في روايته، والأقوى من هذا وذاك تلقي الأمة لهذا الحديث بالقبول، وجريان العمل عليه عند الخلفاء وسائر العلماء.

قال الإمام الترمذي بعد روايته للحديث في جامعه: قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم أ.هـ.

ومن أشهر المعاصرين الذين جعلوا الحديث من درجة المحتج به هو الألباني فقد حكم بأنه: حسن.

معنى الحديث:

قوله "الخراج" هو غلة المبيع، كما ذكر ذلك ابن الأثير في النهاية، كاستعمال العبد، وحليب الناقة، أو أي منفعة يستغلها المشتري حال بقاء العين في يده.

قال الزمخشري: كل ما خرج من شيء من منفعة فهو خراجُه، فخراج الشجر ثمره، وخراج الحيوان نسله ودره. أ.هـ.

قوله "بالضمان" الباء متعلقة بمحذوف تقديره: مستحق، وعليه فيكون الكلام: الخراج مستحق بالضمان.

والمعنى العام للحديث: أن كل ما كان من ضمان الإنسان في حال تلفه فإنه يستحق غلته بمقابل ضمانه له لو تلف، فلو أنه اشترى سيارة وقبضها ثم بانت معيبة، فله حق الرد بالعيب، وليس للبائع أن يطالبه بالأجرة مقابل الانتفاع بها خلال الفترة التي كانت في يده، إذ لو تلفت قبل الرد لكانت من ضمان المشتري، ولا رجعة له على البائع، فجعل هذا مقابل هذا.

الجمع بين هذا الحديث وحديث المصراة:

المقصود بحديث المصراة ما رواه البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « من ابتاع شاةً مُصَرَّاةً فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وردَّ معها صاعاً من تمر ».

وجه التعارض بين الحديثين:

إذا أخذنا بعموم حديث «الخراج بالضمان»، فسنقضي بعدم وجوب رد الصاع من التمر في صورة التَّصْرية، لأن اللبن من غَلَّة الشاة، فيذهب مقابل الضمان الذي عليه لو تلفت في يده، فكيف يكون الجواب عن ذلك؟ وقد يقال: "حديث المصراة" أصح من حديث «الخراج بالضمان» باتفاق، فكيف يقدم المرجوح على الراجح؟

فحكم بعضهم بنسخ حديث المصراة، وأبعد الحنفية برده؛ لمخالفته القياس وظاهر القرآن، ومن أصولهم: أن خبر الآحاد لا يُعارَض به ظاهر القرآن، بينما ذهب الأئمة الثلاثة إلى الأخذ بظاهر الحديث.

قال ابن عابدين: وهو -أي حديث المصراة- مخالف للقياس الثابت بالكتاب والسنة والإجماع من أن ضمان العدوان بالمثل أو القيمة والتمر ليس منهما، فكان مخالفا للقياس فيرد قيمة اللبن عند أبي يوسف، وقال أبو حنيفة يرجع على البائع بأرشها أ.هـ

وقال بعضهم: إن حديث المصراة حكم خاص في نفسه، وحديث «الخراج بالضمان» عام، والخاص يقضي على العام، فيعمل بالخاص على خصوصه، والعام على عمومه، وتكون صورة المُصَرَّاة مستثناةً عن عموم حديث «الخراج بالضمان».

وقد أجاب الحافظ ابن حجر بجواب لطيف أقرب مما سبق فقال: إن المشترى لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه، بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد، ولم يدخل في العقد، فليس بين الحديثين على هذا تعارض.

ومفاد كلام ابن حجر: أن لبن المصراة كان موجودا قبل العقد، فليس من غلتها؛ بل هو جزء منها كأحد أعضائها، فكان ملكا للمشتري، فلزم رد العوض عنه، وأما الخراج الذي يكون مقابل الضمان فهو الذي حدث في يد المشتري قبل الرد، وعليه فلا تعارض بين الحديثين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة