الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مقاصد الشريعة.. وحفظ مصالح العباد

مقاصد الشريعة.. وحفظ مصالح العباد

مقاصد الشريعة.. وحفظ مصالح العباد

المقصد في اللغة: هو الغاية والمراد.
وفي الاصطلاح: هو الغايات التي جاء الدين من أجل تحقيقها بين الناس.
وقيل: هي التدابير التي وضعتها الشريعة من أجل تحقيق مصالح العباد أو المكلفين.
والأول أصح: لأنه تعريف للمقصد، وإنما الثاني تعريف للوسيلة التي يتحقق بها هذا المقصد.

من يستقرئ نصوص الشريعة وأحكامها يتبين أن أعظم مقاصد الإسلام بل هو المقصد الأساس هو تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل؛ وذلك بجلب المصلحة لهم ودرء المفسدة عنهم في أمور معاشهم ومعادهم، بما يتحقق معه سعادتهم في الدارين.. وبهذا صرح المحققون من علماء الإسلام.
يقول العز بن عبد السلام: "إن الشريعة كلها مصالح: إما درء مفاسد وإما جلب مصالح"(قواعد الأحكام:1/9)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها" (منهاج السنة: 1/147).
وقال تلميذه ابن القيم: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحِكَم كلها"(إعلام الموقعين:3/1).
وقال الشاطبي: "إنها ـ أي الشريعةـ وضعت لمصالح العباد".
ولو قال قائل: إن الدين كله إنما هو جلب مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم لكان صادقا.
وقد صدق من قال: شرع الله مصلحة كله، فحيثما كانت المصلحة فثَم شرع الله.

وقد دل على هذا أدلة.. منها:
1 ـ قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، والرحمة تستلزم جلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم.

2 ـ تعليل الأحكام بالمصالح الدنيوية أو الأخروية: فمن المصالح الدنيوية قوله تعالى في تعليل تحريم الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(المائدة: 90، 91)، ومنه قوله تعالى في كتابة الدين والإشهاد عليه: {ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا}(البقرة:282)، وقوله: {ولكم في القصاص حياة}(البقرة: ).
وأما المصلحة الأخروية ففي مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183).

3 ـ رفع الحرج والضرر: كما هو المشهور في القواعد والأصول الفقهية وقبلها النصوص الشرعية، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا ضرر ولا ضرار]، وكما في القاعدة المشهورة [الضرر يزال].
ومن أمثلة رفع الحرج: إباحة أكل الميتة للمضطر، وعدم مؤاخذة المكره حتى في قول كلمة الكفر مع اطمئنان القلب، وكذلك التجاوز عن الخطأ والنسيان.. وهو كثير في شرع الله تعالى. قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}.

4 ـ تشريع الرخص عند المشقات: كالفطر في السفر، والصلاة جالسا لمن لم يقدر على الصلاة قائما، والقاعدة الفقهية معروفة في ذلك وهي قولهم: "المشقة تجلب التيسير"، وقولهم: "كلما ضاق الأمر اتسع"، وأشباه ذلك.

5 ـ ومنها حفظ الضرورات والحاجيات والتحسينيات، لضمان الحياة وتيسيرها قدر الإمكان. وسيأتي.

معيار المصلحة:
ومعيار المصحة هو ما يراه الإسلام لا ما يراه الأشخاص، فقد يظن العبد شيئا مصلحة وليس كذلك؛ وذلك لغياب العلم أو نقصه، أو لغلبه الهوى، أو لعجزه عن إدراك ذلك كما هو الحال في كثير من مصالح الآخرة التي لا تعلم إلا من جهة الوحي المعصوم.
ومصالح الآخرة ومقاصدها مقدمة على مصالح الدنيا ومقاصدها بالاتفاق، كما قال الشاطبي في الموافقات: "والمصالح والمقاصد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصاح والمقاصد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة" (الموافقات:3/387).

أنواع المصالح:
أما أنواع المصالح التي يعنى بها الإسلام إيجادا وحفظا فيجمعها ثلاثة أنواع: الضرورات، والحاجيات، والتحسينيات.
أولا: الضرورات: وهي الأمور التي لا قيام لحياة الناس إلا بحفظها، وإذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى واختل نظام الحياة، وهذه الضرورات خمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
وقد أتى في الدين من التشريعات ما يحفظ به هذه الضرورات:
فشرع من أجل حفظ الدين حفظ الدين:
1 ـ وجوب التفقه في الدين، والعمل به والدعوة إليه.
2 ـ وجوب الحكم بالإسلام.
3 ـ وجوب الدفاع عنه ونشره: ولأجل ذلك شرع الجهاد، وعقوبة المبتدع.
4 ـ وضع حد الردة: كما قال عليه الصلاة والسلام: [ومن بدل دينه فاقتلوه]، وقال: [لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة] (رواه البخاري ومسلم).

ومن أجل حفظ النفس:
1 ـ تكريم النفس وكفل حق الحياة لها: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء:93)
2 ـ تحريم الانتحار: {ولا تقتلوا أنفسكم}(النساء: )، وفي الحديث: [من تردّى من جبلٍ فقتل نفسَه، فهو في نارِ جهنمَ يتردّى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا فقتل نفسَه، فسمُّه في يدِه يتحساه في نارِ جهنمَ خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسَه بحديدةٍ، فحديدتُه في يدِه يجأُ بها في بطنِه في نارِ جهنمَ خالدًا مخلدًا فيها أبدًا](البخاري).
3 ـ إباحة المحرَّم لإنقاذها: كحل أكل الميتة للمضطر {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم}.
4 ـ تشريع القصاص: {ولكم في القصاص حياة}، {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}.

ومن أجل حفظ النسل:
1 ـ الترغيب في الزواج والإنجاب.
2 ـ تحريم الإجهاض.
3 ـ حفظ الأعراض والأنساب: بحد القذف
4 ـ حد الزنا للمحصن وغير المحصن.

ولأجل حفظ العقل:
1 ـ جعل العقل مناط التكليف.
2 ـ تحريم المخدرات والمسكرات.
3 ـ تشريع حد شرب الخمر.

ومن أجل حفظ المال:
1 ـ إباحة الكسب الحلال.
2 ـ النهي عن أكل أموال الناس بالباطل.
3 ـ وضع حد السرقة.

ثانيا: الحاجيات: وهي ما يحتاجه الناس لتحقيق اليسر والسعة في عيشهم، وإذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة، ولكن يصيب الناس ضيق وحرج.
ومن أجلها شرعت الرخص عند المشقة، كأكل الميتة عند الضرورة، وكفطر الصائم المسافر في رمضان، وكذلك تشريع الطلاق عند تعذر استمرا الحياة الزوجية.

ثالثا: التحسينيات: وهي الأمور التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الأخلاق، وإذا فاتت خرجت حياة الناس عن النهج القويم الذي تقتضيه الفطر السليمة والعادات الكريمة. ومن أجل حفظها شرعت الطهارة في البدن والثوب، وستر العرة، والنهي عن بيع الإنسان على بيع أخيه.

فوائد معرفة المقاصد:
1 ـ الفهم الصحيح للشريعة.
2 ـ تعميق الفهم لنصوص الكتاب والسنة.
3 ـ الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل مما لا نص فيه.
4 ـ التيسير على الناس في دينهم ودنياهم.
5 ـ ضبط وتنظيم عقلية الفقيه والمفتي والقاضي.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة