الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (نسي) في القرآن الكريم

لفظ (نسي) في القرآن الكريم

لفظ (نسي) في القرآن الكريم

مادة (نسي) لغة تدل على أمرين: أحدهما: على إغفال الشيء. الثاني: على ترك شيء. فمن الأول: نسيت الشيء: إذا لم تذكره، نسياناً. ومن الثاني: نسي فلان ما أمرته به، بمعنى ترك فعل ما أمرته القيام بفعله. فـ (النسيان) يطلق على ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره، يقال: نسيته نسياناً. وسمي خلاف (الذكر) نسياناً؛ لأن الناسي للشيء تارك له.

وإذا هُمز (نَساء) تغير المعنى إلى تأخير الشيء. والنسيئة: بيعك الشيء نساء، وهو التأخير. تقول: أنسأت. ونسأ الله في أجلك، وأنسأ أجلك: أخره وأبعده. وانتسؤوا: تأخروا، وتباعدوا. ونسأتهم أنا: أخرتهم.

ولفظ (نسي) ورد في القرآن الكريم في خمسة وأربعين (45) موضعاً، ورد في اثنين وأربعين (42) منها بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {واذكر ربك إذا نسيت} (الكهف:24)، وورد في ثلاثة مواضع -وكلها في سورة مريم- بصيغة الاسم: أولها وثانيها وردا في قوله تعالى: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} (مريم:23). وثالثهما ورد في قوله عز وجل: {وما كان ربك نسيا} (مريم:64).

وقد قال الراغب الأصفهاني: "كل نسيان من الإنسان ذمة الله تعالى به، فهو ما كان أصله عن تعمد منه، لا يُعذر فيه، وما عُذر فيه، فإنه لا يؤاخذ به، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) الحديث، فهو ما لم يكن سببه منه".

وقال حافظ المغرب ابن عبد البر: "والنسيان في لسان العرب يكون التركَ عمداً، ويكون ضدَ الذكر". وهذان الوجهان العربيان جاءا في القرآن الكريم: نسيان ترك، ونسيان سهو.

الأول: النسيان بمعنى الترك، من ذلك قول الحق سبحانه: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (طه:115) قوله: {فنسي} أي: فترك عهدي. عن مجاهد في قوله: {فنسي} قال: ترك أمر ربه.

ومن هذا القبيل قوله تبارك وتعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة:67)، أي: تركوا طاعة الله تعالى والإيمان بما جاء به رسوله، فتركهم الله من رحمته.

ومنه أيضاً قوله سبحانه: {ولا تنسوا الفضل بينكم} (البقرة:237)، أي: لا تغفلوا -أيها الزوجين حال الطلاق- الأخذ بالفضل بعضكم على بعض، فتتركوه، ولكن ليتفضل كل منكما على الآخر.

وبحسب هذا المعنى جاء قوله عز وجل: {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم} (السجدة:14) هو ما كان سببه عن تعمد منهم، وتركه على طريق الإهانة، وإذا نسب ذلك إلى الله، فهو تركه إياهم؛ استهانة بهم، ومجازاة لما تركوه. قال الطبري: "يقال لهؤلاء المشركين بالله، إذا هم دخلوا النار: ذوقوا عذاب الله بما نسيتم لقاء يومكم هذا في الدنيا، {إنا نسيناكم} يقول: إنا تركناكم اليوم في النار".

ومنه أيضاً قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} (الحشر:19) قال الطبري: "ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم {فأنساهم أنفسهم} يقول: فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات.

ومنه قوله سبحانه: {واذكر ربك إذا نسيت} (الكهف:24)، قال الطبري: "معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره".

ومن هذا الباب أيضاً قوله سبحانه: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة:286) فالعبد يطلب من ربه رفع المؤاخذة عنه فيما ارتكبه من عمل على وجه الترك والتضييع والتفريط.

الثاني: النسيان خلاف الذكر، من ذلك قول الباري تعالى: {فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} (الكهف:63)، أي: لم يذكر صاحب موسى أن يخبره بالحوت، الذي جعله الله علامة على وجود الخضر عليه السلام، وأخبر صاحب موسى أن عدم ذكره لذلك إنما كان مرده إلى الشيطان.

ومن ذلك قوله تعالى: {قال لا تؤاخذني بما نسيت} (الكهف:73) اعتذر موسى عن فعله على خلاف ما أمره به الخضر عليه السلام، بأن ما فعله كان مرده عدم ذكره ما كان نهاه عن فعله.

ومنه أيضاً قوله عز وجل: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى:6)، أي: سنقرئك يا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، فلا تنساه؛ فالآية إخبار من الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن، ويحفظه عليه، فلا ينساه، إلا ما شاء الله أن يرفعه وينسخه، فـ (لا) في الآية نافية، وليست ناهية.

ومن المفيد هنا التعريج على ما ذكره الطبري في هذا الصدد، حيث قال: "النسيان على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله. فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (طه:115)، وهو (النسيان) الذي قال جل ثناؤه: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} (الأعراف:51).

فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة:286) فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على وجه التفريط والترك، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطاً منه فيه وتضييعاً كفراً بالله عز وجل؛ فإن ذلك إذا كان كفراً بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة؛ لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء:48)، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياماً، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.

وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بِنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه، وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجدٍ منه فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بِنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذِكْرُ ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته؛ لأنه لا ذنب للعبد فيه، فيغفر له باكتسابه".

وحاصل ما تقدم: أن لفظ (نسي) في القرآن الكريم ورد على معنيين رئيسين: الأول: معنى الترك لما أمر العبد بفعله، وهذا عادة ما يكون عن تقصير وتضييع وترك. والثاني: المعنى المقابل للذكر، وهذا عادة ما يكون خارجاً عن إرادة المكلف، ومرده إلى ضعف في ذاكرة المكلف العقلية، أو ضعف في بنيته الجسمية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة