الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النُّبوغ في العلوم والفنون

النُّبوغ في العلوم والفنون

النُّبوغ في العلوم والفنون

في الناس من يجمع علمًا غزيرًا، أو يروي أدبًا واسعًا، وقد يؤلف فتعد مؤلفاته بالمئات أو الآلاف من الصفحات، ولكن لا نجد فيما ألف من مئات الصفحات وآلافها شيئًا زائدًا عما كتبه الناس من قبله، ويسوغ لنا أن نسمي هذا العالم أو الأديب: "حافظًا"، أو "ناقلًا".
أما العالم أو الأديب الذي يدرس، فنسمع منه ما لم نكن قد سمعنا، ويؤلف، فنقرأ له ما لم نكن قد قرأنا، فذلك ما يحق لنا أن نسميه: نابغة، أو عبقريًّا.
فالنابغة أو العبقري هو الذي يحدث علمًا أو فنًّا من فنون الأدب لم يكن شيئًا مذكورًا؛ كما صنع الخليل بن أحمد في علم مقاييس الشعر، أو ينقله من قلة إلى كثرة؛ كما صنع عبد القاهر الجرجاني في علم البلاغة، ودون هذه الدرجة درجات، وسموُّ كعب العالم أو الأديب في العبقرية على قدر ما يأتي به من أفكار مبتكرة، أو ما يستطيعه من حل المسائل المعضلة.
أما ابتداع الرجل للعلم أساليب تجعل مأخذه أقرب، وتناوله أيسر، فليس بنبوغ في نفس العلم، وإنما هو نبوغ في صناعة التأليف فيه.
وإذا كانت العصور قد تبسط يدها بالعلماء الناقلين كلَّ البسط، فإنها لا تسمح بالعبقري إلا قليلًا:
فِتيةٌ لم تلدْ سواها المعالي *** والمعالي قليلة الأولادِ

تقوم العبقرية على الذكاء والجدِّ في طلب العلم، ثم على كبر الهمة، فمن لم يكن ذكيًّا، لم يكن حظُّه من العلم إلا أن يحفظ ما أنتجته قرائح العلماء من قبله، ومن لم يجدَّ في طلب العلم، ولم يُغذِّ ذكاءه بثمرات القرائح المبدعة، بقي ذكاؤه مقصورًا في دائرة ضيقة، فلا يقوى على أن يحلق في سماء العلوم ليبلغ الغاية السامية، وماذا تصنع المرأة الكيسة في بيت لا مؤونة فيه ولا متاع؟!
يقولون: إن ابن سينا لم ينم مدة اشتغاله بالعلم ليلة، واحدة كاملة، ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة.
وقالوا: لم يترك ابن رشد النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، أو ليلة بنائه على أهله.
ومن لم تكن همته في العلم كبيرة، لم يكفه ذكاؤه ولا جده في الطلب لأن يكون عبقريًّا؛ فقد يكون الرجل ذكيًّا مجدًّا في التحصيل، وصغر همته يحجم به أن يوجه ذكاءه إلى نقد آراء قديمة، أو ابتكار آراء جديدة حميدة:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ *** فلا تقنعْ بما دونَ النُّجومِ
والعبقري يلذُّ العلم أكثر مما يلذُّه الناقلون، وإنا لنرى الرجل يرتاح للعلم ينحدر من سماء فكره أكثر مما يرتاح للعلم الذي ينساق إليه من فكر غيره، ولا يزيد هو على أن يودعه حافظته.

قال تقي الدين السبكي في أبيات أجاب فيها عن سؤال يتعلق بآية من الكتاب المجيد:
لأسرار آيات الكتاب معان *** تدقُّ فلا تبدو لكلِّ معانِ
إذا بارقٌ قد لاح منها لخاطري *** هممتُ قريرَ العينِ بالطيرانِ
ولشدة ارتياح النابغة لاستخراج المعاني من معادنها، وتخليص الآراء الراجحة من بين الآراء الواهية، نجده أحرص الناس على العلم، وأشدهم أنسًا به، وأثبتهم على الانقطاع له.

مهيآت النُّبوغ:
للنبوغ مهيآت: منها: أن ينشأ الذكي في درس أستاذ يطلق له العنان في البحث، ويرده إلى الصواب برفق، ويثني عليه إن ناقش فأصاب المرمى.
نقرأ في ترجمة العلامة إبراهيم بن فتوح الأندلسي: أنه كان يفسح لصاحب البحث مجالًا رحبًا، بل يطلب من التلاميذ أن يناقشوه فيما يقرر، ويحثهم على ذلك، ويختار طريق التعليم به، وشأن العالم العبقري أن يقبل على التلميذ المتقد ذكاء، ويأخذ بيده في طريق التحصيل حتى يعرف كيف يكون عبقريًّا.

ومن مهيآت النُّبوغ: أن يشب الألمعي بين قوم يقدرون النوابغ قدرهم، فإن نظر القوم إلى النابغة بعين التجلة، وإقبالهم عليه باحتفاء، مما يزيد الناشئين الأذكياء قوة على الجدِّ في الطلب، والسعي إلى أقصى درجات الكمال.
ولا عجب أن يظهر النابغون في العلم والأدب ببلاد الأندلس؛ فقد كان أهلها- كما قال صاحب "نفح الطيب"-: "يعظِّمون من عظَّمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب: يُقدِّمون من قدَّمته شجاعته، وعظمت في الحروب مكايده".
وظهر في عالم الإسلام خلفاء وملوك ووزراء، كانوا يقدرون النوابغ، ويحتفون بهم لنبوغهم؛ مثل: المأمون العباسي، وعبد الله بن طاهر، وسيف الدولة، والصاحب بن عباد في الشرق، وعبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر، والمعتمد بن عباد في الأندلس.
وأسوق مثلاً لهذا التقدير: أن القاسم بن سلام عرض على عبد الله بن طاهر تأليفه في غريب الحديث، فقال عبد الله: إن عقلًا بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب، حقيق بأن لا يحوج إلى طلب المعاش. وأجرى عليه عشرة آلاف درهم في الشهر.

وقد يهيئ الناشئ للنبوغ أن يسبقه أب أو جدٌّ بالنُّبوغ؛ فإنَّ كثرة تردد اسم سلفه العبقريِّ على سمعه، ومطالعته لبعض آثار عبقريته يثيران همَّته، ويرهفان عزمه لأن يظفر بما ظفر به سلفه من منزلة شامخة، وذكر مجيد.
وإذا رأينا كثيرًا من أبناء فطاحل العلماء، لم يتجاوزوا مرتبة العلماء الناقلين، فلنقص في ذكائهم الفطري، أو لعلل نفسية صرفتهم إلى نواح غير ناحية العبقرية.
ومن مهيآت النُّبوغ: نشأة الذكي في حاضرة زاخرة بالعلوم والآداب؛ إذ في الحواضر يلاقي الناشئ جهابذة العلماء، وأعلام الأدباء، وفي الحواضر يشتدُّ التنافس في العلوم والفنون، ويتسع مجال المحاورات والمناظرات.

ومن مهيآت النُّبوغ: قراءة مؤلفات النابغين في العلم، بعد الاطلاع على دراسة الكتب التي تسوق المسائل مجردة من أدلتها، غير معنية بالغوص على أسرارها، وإنما يجرى منه النُّبوغ متى وضعت تحت نظره كتب يرى مؤلفيها كيف يستمدون آراءهم من الأصول العالية، ولا يوردون مسألة إلا بعد أن يعززوها بالدليل.
ومن مهيآت النُّبوغ: مطالعة تراجم النابغين المحررة بأقلام تشرح نواحي نبوغهم، وتصف آثاره؛ نحو: مؤلفاتهم المنقطعة النظير، ثم ما يخصه بهم عظماء الرجال من تقدير وتمجيد.

ومن مهيآت النُّبوغ: الرحلة، والتقلب في كثير من البلاد، ولا سيما بلادًا تختلف بعاداتها، وأساليب تربيتها، ومناهج حياتها العلمية والسياسية، ولعل نبوغ ابن خلدون في شؤون الاجتماع ذلك النُّبوغ الرائع؛ إنما جاءه من نشأته في تونس، ثم سياحته في الجزائر والمغرب الأقصى والأندلس ومصر سياحة اعتبار، سياحة اتصل فيها برؤساء حكوماتها، وأكابر علمائها، بل سياحة كان يقبض فيها أحيانًا- على طرف من سياسة تلك البلاد.

تقدير النُّبوغ:
يعرف الناس أن زيدًا عالم أو أديب، أما بلوغه مرتبة النُّبوغ في علم أو فنٍّ من فنون الأدب، فإنما يعرفه من درسوا ذلك العلم أو الفن دراسة تمكنهم من الحكم بأن ما يثمره فكر هذا العالم أو الأديب جديد بديع.
فمن لم يدرس علم الطب- مثلًا- لا يستطيع أن يصف أحدًا بالنُّبوغ فيه إلا أن يقلِّد في وصفه بعض كبار الأطباء، ومن لم يدرس علوم اللغة ليس من شأنه أن يشهد لأحد بالنُّبوغ في هذه العلوم إلا أن يتلقَّى تلك الشهادة من أفواه أساتذة اللغة وآدابها.
وأعدُّ من تعقُّل ابن حزم: أنَّه كتب رسالة بيَّن فيها كيف أبدع أهل الأندلس فيما ألَّفوه في العلوم والفنون، ولما وصل إلى علم الحساب والهندسة، قال: "وأما العدد "الحساب" والهندسة، فلم يُقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق أنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا".

وإذا انتشر العلم والأدب في بلد أو قطر، كان أهله أعرف بأقدار النبغاء، وربما عاش العبقريُّ في بلد، ويكون ذكره في بلد آخر أذيع، وشأنه فيه أعلى.
نشأ العلامة أبو عبد الله التلمساني في تلمسان، وعاش بها، ويقول الكاتبون في التعريف به: "وكان علماء الأندلس أعرف الناس بقدره، وأكثرهم تعظيمًا له".
وأشار إلى هذا المعنى بعض من نشأ أو أقام بين قوم لم يقدروا فضل براعته، فقال:
وما أنا إلا المسكُ في غيرِ أرضِكمُ *** يضوعُ وأمَّا عندكم فيضيعُ
أثر النُّبوغ في العلم:
عرفنا أن العلماء الناقلين مزيتهم في حفظ أقوال مَن تقدَّمهم، وليس من شأنهم أن يتقدَّموا بالعلوم ولو خطوة، وإنما الذي يبتكر العلوم، أو تكون له يد في تلاحق مسائلها قليلًا أو كثيرًا، هو العبقريُّ.
ولا يستغني علم من العلوم عن عبقريٍّ يضيف إليه مسائل، أو يحلُّ منه مشاكل، أو يجيد تطبيق أصوله العالية على فروعها.
فعبقرية الأئمة المجتهدين أورثتنا هذه الثروة العظيمة من أصول الشريعة وأحكامها العائدة إلى حفظ الدين والأنفس والأعراض والأموال ، وعبقرية علماء العربية جعلت مقاييس اللغة ومحاسن بيانها في متناول نشئنا، يجرون عليها في خطبهم وأشعارهم، فيسترعون الأسماع، ويأخذون بالألباب.
وهكذا ننظر إلى كلِّ فنٍّ من الفنون التي تقوم عليها المدنية الفاضلة الرائعة، فنجده وليد العبقرية التي تخرق القشر، وتنفذ إلى اللباب.
فحاجة العلم إلى العبقرية لا يقضيها الجماعات التي تقنع بالحفظ وإن كثروا، ومما ينبِّه لهذا المعنى قول محمد بن عيسى القوصي يرثي العامة ابن دقيق العيد:
لو كان يقبلُ فيك حتفُك فديةً *** لفُدِيت مِن علمائِنا بألوفِ

كيف نصعد بأبنائنا في مراقي النُّبوغ؟
تختلف نفوس الناشئين في الميل إلى العلوم، كلُّ نفس تميل إلى ما يوافق طبعها، فنرى نفسًا تختار علمًا، ونفسًا تحتار علمًا غيره، ولندع الفلسفة تبحث عن سرِّ موافقة هذا العلم لطبع هذه النفس، ونكتفي بأن نعلم أنَّ هذه النفس تميل إلى هذا العلم؛ لنتوجه بها إلى التخصص به، فتطلبه برغبة زائدة عن رغبتها فيه من حيث إنَّه علم، وقد أدرك هذا علماؤنا من قبل، فنقرأ في التعريف بحياة العلامة أبي عبد الله التلمساني: أنه كان يترك كلَّ طالب يتخصص بالعلم الذي تميل إليه نفسه.
ومناهج التعليم اليوم تقتضي تخصص كلِّ طائفة بقسم من العلوم، ولا يكفي توجُّه الطالب إلى التخصص بقسم من العلوم لأن يكون نابغًا فيه، وما فتح أبواب التخصص إلا أحد المهيآت للنبوغ، وقد تفوت الطالب القريحة الوقادة والألمعية المهذبة، أو تفوته الهمة التي تطمح به إلى بلوغ الذروة في العلم، فعلى القائمين على شؤون التعليم العام أن لا يكتفوا بأن تخرج أقسام التخصص في كلِّ عام فرقًا يؤدون الامتحان، ويحرزون شهادات تخوِّلهم ولاية بعض المناصب، بل واجبهم أن يوجهوا عنايتهم إلى ذوي الذكاء المتَّقد، وإن كانوا من أبناء البيوت الخاملة، ويربون فيهم الهمَّة الطامحة إلى أسمى الغايات، ويقوون عزائمهم بكلِّ وسيلة ممكنة، حتى يسيروا في طريق العبقرية؛ فإنَّ سلامة الأمة وسيادتها على قدر ما تخرجه معاهدها وجامعاتها من أساتذة أجلاء، أساتذة لا يتركون في العلم الذي يتخصصون به غامضًا إلا استكشفوه، ولا بابًا من أبوابه إلا نفذوا منه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

من ذاكرة التاريخ

أبو المعالي الجويني إمام الحرمين

الإمام الجويني أحد كبار أئمة المذهب الشافعي، مجمع على إمامته متفق على غزارة علومه وتفننه فيها. قضى معظم حياته...المزيد