الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإعلام بالفرق بين القصاص والإعدام

الإعلام بالفرق بين القصاص والإعدام

الإعلام بالفرق بين القصاص والإعدام

مما يتطرق إليه وهم كثير من الناس؛ كون مصطلح الإعدام مرادفا للقصاص، ويبنون على ذلك تأصيلات سقيمة وأحكاما عقيمة، تنم عن مدى البعد السحيق بيننا وبين تراث أسلافنا الأماجد، كما يدل هذا الأمر أيضا على عمق تأثير الفكر الغربي في عقل مسلمي هذا العصر، ومن هنا وجدنا عددا غير قليل من الكتاب يسعون - جهد طاقتهم - إلى تحقيق التوافق بين المصطلحين وإلباسهما لبوس الترادف، مما جعل ضرورة التنبيه إلى هذا الخلط من آكَـد الواجبات.

ومرد هذا الخلط والالتباس هو موارد التشابه بين المصطلحين، من حيث التمثلات المسبقة التي علقت بالأذهان، وكذا اندفاع البعض – بصدق – إلى الرد على مناهضي الإعدام من العلمانيين والحداثيين، مما جعلهم يقعون في فخ المركزية الغربية وهم عن ذلك ذاهلون.

وسنسعى في الفقرات الآتية إلى إظهار بعض الفوارق بين القصاص والإعدام، حتى ينجلي كل لبس ويتضح، وينبلج ما ران على العقول من تلبيس وينكشف.

1) الإعدام إفناء وهدم: هذا ما تفيده مقاييس اللغة ابتداء، فهو بمثابة إلغاء للحياة ونقض لعراها، خلافا لكلمة "قصاص" التي تفيد معنى المماثلة والمساواة مطلقا، يقال: "اقتص أثر فلان": إذا فعل مثل فعله، فهي تدل في كلمة واحدة على أن العقوبة الشرعية تساوي وتماثل الجناية، قال ابن فارس: "(القاف والصاد) أصل صحيح يدل على تتبع الشيء، من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر إذا تتبعته، ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح، وذلك أنه يُفعل به مثل فعله بالأول، فكأنه اقتص أثره "(1).

2) القصاص مصطلح شرعي أصيل والإعدام مصطلح غربي دخيل: للمصطلحات خطر كبير فهي ليست موضوعية بإطلاق؛ لأنها بِنتُ الثقافة التي نشأت فيها والمصادر التي رضعت منها، ذلك أن "الألفاظ ليست بريئة من الخلفيات الحضارية والمذهبية، ولا استعمالها بالأمر الهين في أمور الثقافات والعلوم عموما، وفي أمور الدين بصفة خاصة، وقد أرشد الله الصحابة إلى التحري فيما يخاطبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الألفاظ والعبارات، لما للاشتراك اللغوي الحاصل في بعضها بين الخير وبين الشر؛ رفعا لكل تلبيس وتدليس يقع من المنافقين، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} (البقرة:104)" (2).

ومن ثم؛ فـ"الإعدام" لفظة تستند إلى مرجعية الفكر الغربي الحديث، القائم على الإيمان بالمعقولات والمحسوسات فقط، وإنكار كل ما يتصل بالغيبيات، ولذلك فهم يرون أن قتل الجاني بمثابة نقلة إلى عالم العدم، بخلاف عقيدة المسلم الذي ينظر إلى الموت باعتباره انتقالا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ويؤمن أن ما بعد الموت إما نعيم أو جحيم. وبذلك يتضح ما للاصطلاح من امتدادات عقدية، وإن تَزيـَّى بدثار العلمية والحياد.

3) الفروق بين أحكام القصاص والإعدام: فهناك فروق جوهرية بينهما على مستوى الأحكام التفصيلية، تجعل مجال التطبيق محط تباين شاسع، ويتبين ذلك من خلال الأمثلة الآتية:

- إنفاذ القصاص حق لأولياء القتيل: فقد أوكلت الشريعة التخيير في إقامة الحد بأولياء القتيل، فخيَّترهم بين إقامة القصاص والعفو، يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم* ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} (البقرة: 178-179).

أما القوانين الوضعية فهي تلزم المحكمة بإنفاذ عقوبة الإعدام، ولا تشرك أولياء القتيل في ذلك.

- تشريع الدية كبديل عن القصاص: وهذا عند قبول أهل القتيل الاستعاضة بالصلح عن استيفاء القصاص، وذلك بتعويضهم بمقابل مادي يستل سخيمة قلوبهم، وقد وردت نصوص عديدة تؤصل لهذا الحكم، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل متعمدًا؛ أُسلم إلى أولياء المقتول، فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل ثلاثين حقةٍ، وثلاثين جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها). أخرجه الترمذي وابن ماجة.
وهذا ما لا نجد له أي تلميح – بَلْهَ تصريح – في القانون الجنائي الوضعي.

- عدم الاعتداد بالتقادم في الجرائم: التقادم يُلغي عقوبة الإعدام في القوانين الوضعية، بينما لا يَسقط القصاص في الشريعة الإسلامية بتطاول الزمن عن وقت اقتراف الجرم؛ لأن تأخير الشهادة لا يمنع من قبولها، وتأخير قول الحق لا يدل على بطلانه. فالنصوص الشرعية والقواعد المرعية لا تشهد على أن عقوبات الحدود والقصاص والدية تسقط بمضي مدة معينة، بالإضافة إلى أن هذا حق لا يجوز حتى لولي الأمر أن يعفو عن منتهكه.

ومن ثم؛ فالذي عليه جماهير العلماء هو أن التقادم لا يلحق الجريمة، مهما لحقها من زمن دون محاكمة ما لم تكن تعزيرا، وأساس ذلك أنه لا توجد في الشريعة نصوص وقواعد تدل على سقوط الحدود أو القصاص بمضي مدة معينة (3).

يتمحض من كل سبق؛ أن الذي يقارن بين القصاص والإعدام إنما يقارن بين الكمال والنقصان، كمال التشريع الرباني وتماسكه، ونقص التدبير البشري وتضعضعه، والله تعالى يقول في سؤال استنكاري لأولئك المشككين المرتابين: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} (النحل: 17).

الهوامش:
( ) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس: ج5، ص11.
(2) الفطرية، لشيخنا فريدالأنصاري رحمه الله: ص21.
(3) نظريات في الفقه الجنائي الإسلامي، أحمد فتحي بهنسي: ص 212-213.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة