الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قل أرأيتكم...قل أرأيتم

قل أرأيتكم...قل أرأيتم

قل أرأيتكم...قل أرأيتم

في القرآن الكريم نقرأ الآيات الأربع المتناظرة:

الأولى: قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} (الأنعام:40).

الثانية: قوله سبحانه: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون} (الأنعام:46).

الثالثة: قوله عز وجل: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} (الأنعام:47).

الرابعة: قوله جلَّ وعلا: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون} (يونس:50).

نلاحظ أن الآيتين الأولى والثالثة من سورة الأنعام جاء فعل الرؤية {أرأيتكم} مقترناً بكاف الخطاب، في حين أن الآية الثانية من سورة الأنعام، وآية سورة يونس لم يقترن الفعل فيهما بالكاف {أرأيتم} فما توجيه ذلك؟

أجاب الخطيب الإسكافي على هذا السؤال بما حاصله: أن (التاء) و(الكاف) لا يترادفان إلا عند المبالغة في التنبيه، والمبالغة فيه هو أن يعلم المخاطب أنه لا تنبيه بعد؛ فقوله سبحانه: {أرأيتكم} في الموضعين كلام يدل على ما إذا وقع، لم ينفع عنده الزجر والتنبيه؛ وقوله تعالى: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون} فعند إتيان العذاب، وقيام الساعة، لا ينفع الانتباه، ولا يقع التنبيه.

وكذلك قوله عز وجل: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} معناه: أعلمتم إن أتاكم العذاب مفاجأة من حيث لا يُعْلَم، أو عِياناً من حيث يُشَاهَد، هل يهلك عنده إلا القوم الظالمون، وهم المخاطبون، أي: هل يهلك غيركم؟

ولما علق بالفعل {أرأيتكم} جملة تتضمن مفعوليها، تناهى الأمر في تخويفهم بالخشونة إلى حيث ينقطع التنبيه عندها، فكان هذا الموضع أحق المواضع بالمبالغة فيه لمرادفة التنبيه؛ فلذلك أتى بـ (التاء) و(الكاف) اللتين لا تخلوان من الخطاب.

أما الآيتان الأخريان اللتان اقتصر فيهما على {أرأيتم} ولم يترادف في كل واحدة منهما الخطابان الدالان على التناهي في التنبيه إلى حيث لا تنبيه، أحوج ما كانوا إلى الزجر؛ إذ لم يبلغ منتهاه، كما بلغ في الآيتين الأخريين، يستعجلون هلاكهم ولا يعلمون، ومعناه: أعلموا هم طالبين هلاك أنفسهم ما يستعجلونه من نزول عذاب الله بهم؟ هذا حاصل ما وجَّه به الإسكافي الفرق بين قوله سبحانه: {أرأيتكم} وقوله تعالى: {أرأيتم}.

وقريب مما ذكره الإسكافي وجَّه ابن الزبير الغرناطي الفرق بين اللفظين، فقال ما حاصله: إن الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المحصل لذلك، تأكيد في إيقاظ المُنَبَّه، إنْبَاءً باستحكام غفلته، كما يُحَرَّك النائم باليد، والمفرط الغفلة باليد واللسان وشبه هذا، فقد وصفهم سبحانه قبل هذا بقوله: {والذين كفروا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} (الأنعام:39) فذُكِّروا أولاً تذكير الصم والبكم، وإنما يُذَكَّرُ هؤلاء بأبلغ ما يقع به التحريك والتنبيه، ثم لما بسط الكلام، وامتد الوعظ إلى الآية الأخرى، قيل لهم: {قل أرأيتم} فلم يحتج إلى التأكيد، وذُكِّروا بأمر مشاهد في كثير من الخلق، فقيل لهم: {إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} ثم لما أُخذوا بكل وجهة يحصل منها الاتعاظ، أتبع ذلك بذكر العذاب، وسوء الجزاء لمن لم يتعظ، وكُرِّرَت أداة الخطاب، وأكد، كما يقال لمن نُبِّه فلم ينتبه، ولا أجدى عليه التذكار: كيف رأيت؟ ويُحرك تحريك المتمادي على غَيِّه بتكرر الخطاب.

وأما آية يونس فمنفردة، ولم يتقدم قبلها ذكر (صم) ولا (بُكم) يوجب تأكيد الخطاب، وقد تقدم قبلها قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} (يونس:31) إلى ما بعد هذا، فحصل تحريكهم وتنبيهم بما لم يبق بعده الا التذكير بعذابهم، إن لم يَجْدِ ذلك عليهم، فالتدريج هنا حاصل كما هناك، لكن بطريقة أخرى.

وتوجيه الكرماني للفرق بين لفظ {أرأيتكم} ولفظ {أرأيتم} لا يخرج عما ذكره الإسكافي وابن الزبير، حيث قال: قوله سبحانه: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} ثم قال {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة} ليس لهما ثالث، وقال سبحانه فيما بينهما: {قل أرأيتم} وكذلك في غيرها، وليس لهذه الجملة في العربية نظير؛ لأنه جمع بين علامتي خطاب، وهما: (التاء) و(الكاف) و(التاء) اسم بالإجماع، و(الكاف) حرف يفيد الخطاب فحسب، والجمع بينهما يدل على أن ذلك تنبيه على شيء ما عليه من مزيد، وهو ذكر الاستئصال بالهلاك، وليس فيما سواهما ما يدل على ذلك، فاكتفى بخطاب واحد {أرأيتم}.

أخيراً وليس آخراً، فقد ذكر ابن جماعة أنه سبحانه إنما جمع في الآيتين بين علامتي الخطاب، وهما (تاء) الضمير، و(كاف) الخطاب {أرأيتكم} أنه لما كان المتوعَّد به شديداً، أكَّد في التنبيه عليه بالجمع بينهما؛ مبالغة في الوعد.

وحاصل ما نقلناه من توجيهات أهل العلم للفرق بين قوله سبحانه: {أرأيتكم} وقوله عز وجل: {أرأيتم} أن الآيتين اللتين جمعتا بين (التاء) و(الكاف) المفيدتين للخطاب، إنما كان لغرض وجود أمر يقتضي التأكيد عليه، والتنبيه على ضرورة تداركه قبل فوات الأوان، وأنهم إذا لم ينتبهوا لخطورته الآن، فلن يكون تنبيه ولا استدراك عندما ينزل بهم أمر الله. ولم يوجد في الآيتين الأُخريين ما يستدعي هذا التأكيد والتنبيه، ومن ثم فقد خلتا من (كاف) الخطاب، واكْتُفِيَ بـ (التاء) فحسب. والله أعلم وأحكم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة