الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يا معشر الشباب

يا معشر الشباب

يا معشر الشباب


حفلت السنة النبوية المطهرة بمنظومة الأسرة، من خلال التشريعات والتعاليم التي مثَّلت سُوراً منيعا لحماية حصونها، وأضفت عليها صبغة التعبد في كثير من أحكامها، وأرست قواعد الأسرة وأُطُرها العامة، وبينت حدود ما يحل وما يحرم، مع بيان الغايات والمقاصد، ومن أبرز ما يطالعك في أول أبواب الأنكحة أحاديث الحث على النكاح، والترغيب فيه للقادرين عليه، وبيان أنه سنة الأنبياء، وفطرة الأسوياء، لما علم الله من ضرورة إفراغ غريزة الميل بين الجنسين، وتلبية غريزة الأمومة والأبوة، وتلك حكمة الله البالغة المتوافقة مع الفطرة، والمنسجمة مع متطلبات الروح والبدن.

عن علقمة، قال: كنت أمشي مع عبد الله بمنى، فلقيه عثمان، فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن، ألا نزوجك جارية شابة، لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك، قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». متفق عليه.

ألفاظ الحديث:
(الباءة): اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين:

القول الأول: أن المراد معناها اللغوي وهو: الجماع، مشتقة من المباءة، وهي المنزل، ومنه مباءة الإبل وهي مواطنها، ثم قيل لعقد النكاح باءة؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مُؤَنِه وهي مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا، وهذا القول أصحها كما قال النووي.

القول الثاني: أن المراد هنا بالباءة: مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطعها فليصم ليدفع شهوته، والذي حمل القائلين بهذا على هذا أنهم قالوا قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم» قالوا والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن، وأجاب الأولون بأن تقديره: من لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه وهو محتاج إلى الجماع فعليه بالصوم والله أعلم. انتهى مختصرا من شرح النووي على صحيح مسلم. والقول الأول يجمع القولين.

وأما (الوجاء): فبكسر الواو وبالمد، وهو رَضُّ الخصيتين، والمراد هنا: أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني، كما يفعله الوجاء.

إشكال وجوابه:
قد يستشكل البعض أن أثر الصوم في إضعاف الشهوة غير ملحوظ عند البعض، بل قد يحدث العكس، وهذا الإشكال أجاب عنه العلماء قديما وحديثا، قال الحافظ ابن حجر: قَوْلُهُ: "«فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، مُقْتَضَاهُ أنَّ الصَّوْمَ قَامِع لِشَهْوَة النِّكَاح، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَزِيدُ فِي تَهْيِيجِ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ فَإِذَا تَمَادَى عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ سَكَن ذَلِكَ. وَاللَّه أَعْلَمُ". انتهى من فتح الباري..

ومن العلماء المعاصرين من يعزو تخلف أثر الصوم هنا إلى أسباب متعددة، منها: كثرة الأكل وقت الإفطار والسحور مع تنوع المآكل، من أصناف الفواكه واللحوم مما يحدث ثورانا للشهوة، فلا يحصل مقصود الشارع من الصيام، ومن ذلك: عدم الالتزام بعبادة الصوم بمفهومها الشرعي القائم على اجتناب المفطرات الحسية، والآثام المخلة بالتدين على العموم والمؤثرة على الصيام بالخصوص، مما يضعف هذه العبادة عن أداء أثرها المرجو منها، فيصوم مع إطلاق بصره في المحرمات من المناظر التي تستدعي لديه الفكرة الرديئة، وهكذا سائر المحرمات، ومنها: قلة الحركة والركون للنوم والراحة، فيحتفظ البدن بالمخزون الغذائي الذي يساعد على بقاء الشهوة، لا سيما أن بعض الشباب قد حصل عندهم ارتباط ذهني بين الصوم والنوم، فلا يحس بجوع ولا إجهاد، فأنى لمثل هذا الصيام أن يؤدي دوره في إضعاف شهوة محمية بالنوم، محاطة بالأطعمة الغنية بالغذاء والسعرات الحرارية العالية.

وأما علاقة الصوم بتخفيف الشهوة فإن أهل الطب يقولون: "إن الصوم يزيد افراز هرمون الميلاتونين ويقلل من افراز الهرمونات الجنسية فيعمل هذا على تشذب الشهوة الجنسية، وتخف الرغبات الجنسية اثناء الصوم" انتهى أماالشرعيون فيضيفون بُعداً روحياً لهذه العلاقة وهو: أن التصورات الجنسية تغيب، أو تقل خلال التعبد، فالصوم يقوي إرادة الإنسان، ويعزز دورها في نفس الصائم، فتزيد ثقة الانسان بنفسه، وتقوى مقاومة الرغبات والاستجابة للغرائز، وقد يستغرق المتعبد في العبادة فينسى ما هو أشد إلحاحاً كالحاجة للطعام والشراب والنوم، إضافة إلى أن الصوم من العبادات التي تزكي النفس، وتطهرها مما علق بها من الخطرات والنزوات.

أهمية هذا التوجيه النبوي:
تواترت التحذيرات النبوية من الفتنة التي تحصل بين الرجال والنساء، ففي حديث أسامة بن زيد: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» رواه البخاري ومسلم، وقد كانت الفتنة بوسائلها التقليدية البسيطة، بخلاف ما نحن فيه من تطور أساليب الفتنة، وصارت تقف وراء الإغراء بين الجنسين مؤسسات ربحية عالمية، وهي تزداد يوما بعد يوم، فإذا كان الحث على النكاح مطلبا ملحَّاً في العصر النبوي وما بعده، فإنه في هذا الزمن أشد إلحاحاً، سيما مع ظاهرة العزوف عن الزواج أو التأخر عنه في بعض المجتمعات، مما يعمق الإشكال، ويجعل مثل هذا التوجيه النبوي موضوعا بالغ الأهمية، وضرورة مخاطبة الشباب بمثل هذا الهدي النبوي القاصد إلى الإعفاف، وتقليل فرص الفتنة، بل ينبغي أن تتمثله الدول والمؤسسات عبر خطوات منظمة، تسهل للشباب فرص النكاح؛ صيانة للمجتمع من سلسلة الكوارث الاجتماعية، والعواقب الوخيمة، التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة في الأرض وفساد كبير، فتأخير الزواج لغير عذر من قدرةٍ أو مؤنة تجعل الشاب في موضع ريبة، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عباس، أنه قال لغلمانه: «من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم الزاني إلا نزع الله نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه»، وقال إبراهيم بن ميسرة: قال لي طاوس : لتنكحن، أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد : ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور !! أخرجه بن أبي شيبة وغيره.

التوجيه النبوي وصناعة الوعي:
ينبغي أيضا أن تستهدي الأسرة بمثل هذا التوجيه النبوي، من خلال تحفيز الإرادة لدى الشباب بالمسارعة إلى النكاح متى ما قدروا عليه، وظهرت حاجتهم إليه، ولا ينبغي التهاون في مثل هذا الحال، فهو واجب الساعة، وفريضة الوقت؛ حفاظا على سلامة عفتهم وديانتهم، سيما وقد صار تأخير الزواج موضى عابرة يتباهى بها الشباب في بعض المجتمعات، مع كون الواحد منهم قادرا على مؤنه، ومحتاجا إليه، فينبغي للأسرة أن تكون موجهة ومحفزة لأفرادها، من خلال تعزيز الوعي لديهم بضرورة تكوين الأسرة، وأهمية المشاركة في تعمير الأرض، من خلال الحفاظ على النسل البشري الذي يتحقق به مقصود الاستخلاف.

ويتأكد هذا الدور التوعوي في ظل السلبية التي تظهرها بعض الدراسات المجتمعية، من خلال ما يدلي به فئة الشباب من معلومات تفيد بأن من أبرز أسباب العزوف عن الزواج هو التخفف عن أعباء الحياة، والتنصل عن مسؤوليات الزواج، والقصور عن القيام بمهمة القوامة والتربية، والميل إلى التمتع بمباهج الحياة_على حد زعمهم_ ولا يخفى أن هذا من ضعف الوعي بأهمية الزواج ومقاصده العظيمة، بل من ضعف الوعي بمقصد خلق الإنسان، وقيمة الوجود الإنساني الحقيقية بمنظور الإسلام الحنيف.

ويؤسس الوعي بأن قرار الزواج أوالعزوف عنه ليس قرارا شخصيا محضا، بل إن القادر التائق الخائف على نفسه العنت يجب عليه شرعا المسارعة إلى الزواج، وذلك أن النكاح يكتمل به دين الناكح من خلال ما يعصم به نفسه من أنواع الفتن والفواحش الهاتكة للدين والحياء والمروءة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَن رَزَقَهُ اللَّهُ امرَأَةً صَالِحَةً فَقَد أَعَانَهُ عَلَى شَطرِ دِينِهِ، فَليَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطرِ الثَّانِي». رواه الحاكم في المستدرك، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب.

وأما التائقون إلى النكاح العاجزون عن مؤنه وتكاليفه، فيجب صناعة الوعي لديهم بمبدأ الاستعفاف، وفريضة الصبر عن المحرمات، وكف النفس عن الولوج في الفواحش، وقد أمروا بالاستعفاف، كما قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قول الله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية: معناها - والله أعلم -: ليصبروا حتى يغنيهم اللَّه تعالى. أ.هـ
وفي تعبير الآية بلفظ (الاستعفاف) بلاغة عجيبة، فكأن المستعف طالبٌ من نفسه العفاف وحاملها عليه -كما قال الرازي-، وخاصة في مثل حالنا اليوم، فإن الشباب والفتيات يقع عليهم واجب أعظم، بأن يبذلوا جهدا مضاعفا في حمل نفوسهم على العفاف، وذلك بقطع أسباب الفتن، من المشاهدات الفاتنة، والخلوات المحرمة، والأماكن المريبة، وإشغال نفوسهم بالعمل والإنتاج في الصالح العام، وما هي إلا أن يعلم الله صدقهم، فيوصلهم إلى الحلال سالمين من الفواحش، غانمين لرضوان الله، منتصرين على شهواتهم، متمتعين بفضل الله عليهم، فتذهب عنهم قساوة المجاهدة وتبقى لذة العفة، وسلامة الدين.

وينبغي أن يُفهم هذا التوجيه النبوي السامي بأبعاده مجتمعة، فالخطاب وإن كان بمنطوقه موجه للشباب، لكنه بمعقوله خطاب لكل من له صلة بهذا الشأن، من الأولياء والقائمين على مصالح الأسرة، مروراً بالمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني ذات العلاقة، من خلال نشر الوعي، وتذليل الصعاب أمام الشباب كلٌّ من موقعه واختصاصه، وبهذا الفهم الكلي للتوجيه النبوي تترافق الجهود، ويُصنع الوعي، ويُستنقذ الشباب من الإغراق في مشاريع الشهوات، والنجاة بهم إلى مرفأ العفاف والنقاء الاجتماعي.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة