
مما حرَّم الله أكْلَه على عباده ما نص عليه في قوله سبحانه: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين * وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين * وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون * ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام:118-121).
جاء في سبب نزول هذه الآيات ما أخرجه أصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! أنأكل ما نَقْتُلُ، ولا نأكل ما يَقْتُل الله؟ فأنزل الله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} إلى قوله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}.
وفي لفظ لابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كانوا يقولون: ما ذُكر عليه اسم الله، فلا تأكلوا، وما لم يُذكر اسم الله عليه فكلوه، فقال الله عز وجل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}. ولفظ ابن ماجه هذا لا يخالف اللفظ الأول الذي جاء فيه: (أنأكل ما نَقْتُلُ، ولا نأكل ما يَقْتُل الله؟ أي كيف نأكل المذكاة التي قتلناها بأيدينا، ولا نأكل الميتة التي قتلها الله، ولم تذكَ؟
أما اللفظ الثاني فقالوا فيه: ما ذُكر عليه اسم الله فلا تأكلوا، أي: ما ذكيتم وذكرتم عليه اسم الله، فلا تأكلوا، أنتم الذين قتلتموه، وقولهم: وما لم يذكر اسم الله عليه، فكلوه، أي: الميتة؛ لأن الله هو الذي قتلها، وهذا يوافق اللفظ الأول تماماً. أنأكل ما نَقْتُل، ولا نأكل ما يَقْتُل الله؟
وعند النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (جادل المشركون المسلمين، فقالوا: ما بال ما قَتَلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه، وأنتم تتبعون أمر الله؟ فأنزل الله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}.
وفي رواية: (خاصمهم المشركون، فقالوا: ما نذبح لا تأكلونه، وما ذبحتم أكلتموه).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمات. وقد أورد جمهور المفسرين حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وجعلوه سبب نزولها منهم؛ الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والسعدي، وابن عاشور.
قال ابن العربي: "مطلق سبب الآية الميتة، وهي التي قالوا هم فيها: ولا نأكل مما قتل الله، فقال الله لهم: لا تأكلوا منها، فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها".
وقال القرطبي: "خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه، فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا؛ فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها".
وقال السعدي: "ويدخل في هذه الآية ما مات بغير ذكاة من الميتات، فإنها مما لم يُذكر اسم الله عليه، ونص الله عليها بخصوصها في قوله: {حرمت عليكم الميتة} ولعلها سبب نزول الآية؛ لقوله: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} بغير علم؛ فإن المشركين حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتة، وتحليله للمذكاة، وكانوا يستحلون أكل الميتة، قالوا: -معاندة لله ورسوله، ومجادلة بغير حجة ولا برهان- أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعنون بذلك الميتة".
وقال ابن عاشور: "والوجه عندي أن سبب نزول هذه الآية ما تقدم آنفاً من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين لما حرم الله أكل الميتة: (أنأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله) يعنون الميتة، فوقع في أنفس بعض المسلمين شيء فأنزل الله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} أي: فأنبأهم الله بإبطال قياس المشركين المُمَوِّه بأن الميتة أولى بالأكل مما قتله الذابح بيده، فأبدى الله للناس الفرق بين الميتة والمذكى، بأن المذكى ذُكر اسم الله عليه، والميتة لا يذكر اسم الله عليها، وهو فارق مؤثر".
وبما تقدم يظهر أن سبب نزول هذه الآيات هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما برواياته المختلفة، المروي عند أصحاب السنن؛ لأن سياقه يوافق سياق الآيات، ولاحتجاج المفسرين به من السلف والخلف، ولأن إسناده حسن مع تصريحه بالنزول.