الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا

إن الله سبحانه أقام هذه الحياة على سنن كونية لا يستقيم أمر الحياة إلا بها، ومن هذه السنن سُنَّة النصر للمؤمنين والتمكين لهم في الأرض، وقد عبر عن هذه السُّنَّة قوله سبحانه: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} (آل عمران:147) نقف مع هذه الآية عدة وقفات مستخلصين المراد منها:

الوقفة الأولى: يخبرنا سبحانه في هذه الآية عن قوم من الأقوام السابقة، قُتل منهم، أو قُتل نبيهم، بأنهم صبروا، ولم يفروا، ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا الله بالثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم.

الوقفة الثانية: الآية خطاب للمؤمنين، أي: هلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أيها المؤمنون؟ فإن فعلتم مثل ما فعلوا، فإن الله سيستجيب دعائكم، وينصركم على أعدائكم، ويكتب لكم الأجر والثواب في الآخرة. وهذه سُنة الله يفعلها مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق.

الوقفة الثالثة: قوله سبحانه: {وما كان قولهم إلا أن قالوا} أي: ما كان لهم من قول في تلك الحال التي اعتصموا فيها بالصبر والثبات، وعزة النفس، وشدة البأس إلا ذلك القول المنبئ عن قوة إيمانهم، وصدق إرادتهم، وهو الدعاء بأن يغفر الله لهم بجهادهم ما كانوا ألموا به من الذنوب والتقصير في إقامة السنن، أو الوقوف عند ما حددته الشرائع، {وإسرافنا في أمرنا} بالغلو فيه، وتجاوز الحدود التي حددتها السنن له {وثبت أقدامنا} على الصراط المستقيم الذي هديتنا إليه حتى لا تزحزحنا عنه الفتن، وفي موقف القتال، حتى لا يعرونا الفشل، {وانصرنا على القوم الكافرين} بك، الجاحدين لآياتك، المعتدين على أهل دينك، فلا يشكرون لك نعمك بالتوحيد والتنزيه، ولا بفعل المعروف وترك المنكر، ولا يمكنون أهل الحق من إقامة ميزان القسط، فإن النصر بيدك، تؤتيه من تشاء بمقتضى سننك.

الوقفة الرابعة: دلت الآية الكريمة على أن هؤلاء الصابرين ليس لهم شأن في ميدان القتال وفي عموم الأحوال إلا الاتجاه إلى ربهم ضارعين، شاعرين بالتقصير في جنب الله سبحانه، وأن القول الثابت والمتحقق عندهم في مثل هذه الأحوال هو: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} فنفى الله تعالى عنهم كل قول إلا الاستغفار وطلب النصر، فلم تكن منهم صيحات الفزع والاضطراب، ولا صيحات الأخذ من الأسلاب والغنائم، إنما قولهم هو في علاج نفوسهم والطب لأدوائها، وطلب النصر من ربهم على أعداء الحق الكافرين به، وتلك غاية الغايات عندهم.

الوقفة الخامسة: وصف سبحانه عباده في هذه الآية بما يدل على الثبات من أقوال اللسان التي تجري عليه عند الاضطراب والجزع، أي: أن ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردد في صدق وعد الله، ولا بدر منهم تذمر، بل علموا أن ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، أو كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف؛ فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثم سألوه النصر وأسبابه ثانياً، فقالوا: {وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} فلم يصدهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النصر.

الوقفة السادسة: قوله تعالى {وإسرافنا في أمرنا} قد يكون المراد بـ (الإسراف في الأمر) التقصير في أخذ أُهْبَة القتال لمواجهة عدوهم، والاستعداد له، أو الحذر من العدو، وهذا الظاهر من كلمة (أمر) بأن يكونوا شكوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئاً عن سببين: باطن وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر. فقولهم: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا} يدل على أنه لا شيء يصيب العباد إلا بذنب من الغفلة ارتكبوه. وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولته المشهورة: إنكم تُتصرون على عدوكم بطاعة الله، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم.

الوقفة السابعة: قال ابن القيم: "لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزموهم بها. وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد. وأن النصر منوط بالطاعة، قالوا: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يثبتوا ولم ينتصروا، فوفُوا المقامين حقهما: مقام المقتضى، وهو التوحيد، والالتجاء إليه سبحانه. ومقام إزالة المانع من النصرة، وهو الذنوب والإسراف".

الوقفة الثامنة: في المجيء بصيغة الدعاء {ربنا} ما يرشد إلى أن علاقة العبد بالربوبية متقدمة على علاقته بالألوهية، فالألوهية مكلفة، فمعنى (إله) أي: معبود، وما دام معبوداً، فله تكليف يطاع فيه، وهذا التكليف يأتي بعد ذلك، هو سبحانه له ربوبيته في الخلق قبل أن يكلفهم، وما دام الرب هو الذي يتولى التربية، فالأولى أن يقول العباد: يا رب، وقولهم: {ربنا} يعني أنت متولي أمورنا، أنت الذي تربينا.

الوقفة التاسعة: أفادت الآية الكريمة أن الذنوب والإسراف في الأمور من أسباب البلاء والخذلان، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح؛ ولذلك سألوا الله أن يمحو من نفوسهم أثر كل ذنب وإسراف، وأن يوفقهم إلى دوام الثبات، ولا شك أن الدعاء والتوجه إلى الله تعالى في مثل هذه الحال مما يزيد المؤمن المجاهد قوة وعزيمة ومصابرة للشدائد؛ ولذلك يعترف علماء النفس والأخلاق بأن المؤمنين أشد صبراً وثباتاً في القتال من الجاحدين.

الوقفة العاشرة: ومما ترشد إليه هذه الآية هو أن على الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء، فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه، وعلمهم كيف يدعون. وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كان في الجهاد أو غيره.

ومحصَّل القول: إن المقصد من هذه الآية أن يقتدي بأولئك السابقين في هذه الطريقة كل من ينضوي تحت راية القرآن، ويدين بدين الإسلام، فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه ضلَّ وذلَّ، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب، وحصَّل المأمول.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة