الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

الحفاظ على النفس الإنسانية مقصد شرعي يندرج ضمن الضروريات الخمس التي رعتها جميع الشرائع، ومن الأحكام الشرعية التي تتعلق بالنفس الإنسانية ما جاء في قوله سبحانه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (المائدة:45) نقف مع هذه الآية لنستخلص منها جملة من الأحكام الشرعية التي تضمنتها، وذلك وفق المسائل التالية:

المسألة الأولى: تمسك الحنفية بظاهر هذه الآية في قتل المسلم بالذمي، وفي قتل الحر بالعبد. وقال الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهو مذهب المالكية أيضاً، قال ابن العربي المالكي: "إنما جاءت هذه الآية للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلاً برجل، ونفساً بنفس، وأخذهم من قبيلة أخرى نفسين بنفس، فأما اعتبار أحوال النفس الواحدة بالنفس الواحدة فليس له تعرض في ذلك، ولا سيقت الآية له، وإنما تُحْمَلُ الألفاظ على المقاصد".

المسألة الثانية: قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} يوجب قتل الرجل الحر بالمرأة الحرة مطلقاً؛ وبه قال كافة العلماء، قال ابن كثير في "تفسيره": "وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقْتَل بالمرأة؛ لعموم هذه الآية الكريمة".

المسألة الثالثة: قوله سبحانه: {والجروح قصاص} (القصاص) هو المساواة والمماثلة؛ وذلك يوجب أن تؤخذ العين اليمين بالعين اليمين، واليسرى باليسرى، واليد اليمين باليد اليمين، واليسرى باليسرى، الكل بالكل، والبعض بالبعض، وقال ابن شبرمة: تؤخذ اليمين باليسار واليسار باليمين؛ نظراً إلى استوائهما في الصورة والاسم، ولم ينظر إلى المنفعة، وهما فيها متفاوتتان أشد تفاوتاً مما بين اليد والرجل، فإذا لم تؤخذ اليد بالرجل فلا تؤخذ يمنى بيسرى.

المسألة الرابعة: لفظ (القصاص) يقتضي أن يُقتص من الجاني بالآلة التي جني بها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله. وضابطه أن كل جرح أمكن فيه القصاص والمماثلة، ولم يخش منه الموت، فقد وجب فيه القصاص، وكل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قَوَد فيه، وفيه الدية؛ لعدم إمكان القَوَد فيه. وقد ذكر أهل العلم، أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يُعْرَف مقداره عمقاً، أو طولاً، أو عرضاً. وقدر أئمة الفقه أَرْشَ -الأرش: دية الجراحة- كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هنا موضع بيان كلامهم.

المسألة الخامسة: لا قصاص في كل مَخُوْفٍ، ولا فيما لا يُوْصَلُ إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب، أو يزيد، أو ينقص. ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القَوَد منه. وهذا كله في العمد، فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ، فكذلك في الجراح.

المسألة السادسة: مذهب الحنفية والشافعية أنه إذا جَرَحَ أو قَطَعَ الأذن أو اليد، ثم قَتَلَ، فُعل ذلك به؛ لأن الله تعالى قال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} فيؤخذ منه ما أخذ، ويُفْعَل به كما فعل. وقال المالكية: إن قصد به المثلة فُعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قُتِل بالسيف.

المسألة السابعة: أجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدِّية، وفي العين الواحدة نصف الدية. وفي عين الأعور إذا فُقِئت الدية كاملة. وقال الحنفية والشافعية: فيها نصف الدية.

المسألة الثامنة: اختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها؛ فمذهب جمهور أهل العلم أنه فيها حكومة (الحكومة في الجراح أن يُقَوَّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يُقَوَّمُ وهي به قد برئت، فما نقصته الجناية فله مثله من الدية، كأن تكون قيمته وهو عبد صحيح عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عُشْر ديته). وروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: فيها مائة دينار. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: فيها ثلث ديتها، وقال مجاهد: فيها نصف ديتها.

المسألة التاسعة: مذهب جمهور أهل العلم أن الأصابع في الدِّية كلها سواء، وأن الأسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والأضراس والأنياب، لا يُفضل شيء منها على شيء.

المسألة العاشرة: أجمع العلماء على أن قوله تعالى: {والسن بالسن} أنه في العمد، فمن أصاب سِنَّ أحد عمداً ففيه القصاص، واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كُسِرَت عمداً، فقال المالكية: عظام الجسد كلها فيها القَوَد، إلا ما كان مَخْوفاً مثل الفخذ ونحوها، ففي ذلك الدية. وقال الحنفية والشافعية: لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن؛ لقوله تعالى: {والسن بالسن} قال الشافعي: "لا يكون كسر ككسر أبداً، فهو ممنوع". وقال الطحاوي: "اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فكذلك في سائر العظام".

المسألة الحادية عشرة: مذهب المالكية والحنابلة أن المرأة تعاقل الرجل -العقل: الدية- إلى ثلث ديته، إصبعها كإصبعه، وسنها كسِنِّه، فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل. وذهب الحنفية والشافعية إلى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قلَّ أو كثر، واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية، كان القليل مثله.

المسألة الثانية عشرة: مذهب الحنابلة أن الجماعة لا تُقْتَلُ بالواحد؛ لأن الله تعالى قال: {النفس بالنفس} ومذهب جمهور أهل العلم أن الجماعة تُقْتل بالواحد، قال ابن العربي: "العموم في الآية تخصه حكمته؛ فإن الله سبحانه إنما قتل من قتل صيانة للأنفس عن القتل، فلو علم الأعداء أنهم بالاجتماع يسقط القصاص عنهم لقتلوا عدوهم في جماعتهم، فحكمنا بإيجاب القصاص عليهم؛ ردعاً للأعداء، وحسماً لهذا الداء، ولا كلام لهم على هذا".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة