الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سيقول الذين أشركوا لو شاء الله...

سيقول الذين أشركوا لو شاء الله...

سيقول الذين أشركوا لو شاء الله...

من النظائر القرآنية نقف مع الآيتين التاليتين:

الآية الأولى: قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} (الأنعام:148).

الآية الثانية: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} (النحل:35).

يَرِدُ على هاتين الآيتين سؤلان:

الأول: أنه سبحانه ذكر في آية النحل قوله: {من دونه من شيء} ولم يذكره في آية الأنعام، وهل كان يجوز لو وُصِلت إحداهما بما وُصِلت به الأخرى؟

الثاني: تأكيد الضمير المتصل في آية النحل {ما عبدنا} بالضمير المنفصل {نحن} ثم العطف عليه، وفي سورة الأنعام لم يؤكد، وعطف عليه: {ولا آباؤنا} والفصل الذي يقوم مقام التأكيد في المكانين حاصل، فما وجه ذلك؟

أجاب الإسكافي عن السؤال الأول بما حاصله: إن قوله تعالى: {ما أشركنا} في آية الأنعام مستغن عن ذكر المفعول به، وإن كان في الأصل متعدياً إليه، كقوله سبحانه: {ألا تشركوا به شيئا} (الأنعام:151) وإنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به، كما احتاج إليه في قوله في آية النحل: {عبدنا} لأن (الإشراك) يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، و(العبادة) لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته؛ لأنها تدل على معبود، هو مُثْبَتٌ لا يصح نفيه، فقوله عز وجل: {ما عبدنا} غير مستنكَرٍ أن يعبدوا، وإنما المستنكَرُ أن يعبدوا غير الله شيئاً، فكان تمام المعنى بذكر قوله: {من دونه من شيء} وكذلك قوله جل شأنه في الآية نفسها: {ولا حرمنا من دونه من شيء} لا بد مع قوله: {حرمنا} من قوله: {من دونه من شيء} ولم يحتج إليه بعد قوله في آية الأنعام: {ما أشركنا} لأن الإشراك دالٌّ على أن صاحبه يعبد شيئاً من دون الله، ولا يدل {عبدنا} على ذلك، فوُفِّيَ اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام.

وأجاب الإسكافي عن السؤال الثاني: وهو تأكيد علامة الإضمار في آية النحل بـ {نحن} وتَرْكُ ذلك في آية الأنعام مع أن بعد (واو) العطف (لا) في الموضعين، أجاب بما حاصله: أن كل ما أكد معنى الفعل، الذي ضمير الفاعل كالجزء منه، إذا وليه، ولم تكثر الحواجز بينهما، قائم مقام التأكيد بعلامة الإضمار مثل (أنا) و(نحن). وقوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا} فـ {أشركنا} منه منفي بـ {ما} و(لا) بعد (الواو) مؤكدة معنى {ما} الداخلة على الفعل، وكأنها مؤكدة للفعل، وإذا أكدت الفعل، وعلامة الإضمار جزء منه، فكأنما أكدتها، ومثله قوله عز وجل: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} (هود:112) {ومن تاب} عطف على المضمر في قوله: {فاستقم} وصح؛ لأن قوله: {كما أمرت} بمعنى استقامة مثل ما أُمِرْتَ به، فـ {كما أمرت} في موضع المصدر، والمصدر هو تأكيد للفعل نفسه، فصار مثل تأكيد ما هو جزء منه، فكان هذا التأكيد للفعل يليه في هذا المكان، وفي قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا}.

أما قوله سبحانه: {ما عبدنا من دونه من شيء} لم يكن الفصل مؤكِّداً للفعل نفسه، كما كان المصدر في قوله: {فاستقم} وكما كان (لا) بعد (واو) العطف، فقوله: {ولا آباؤنا} مؤكِّدة معنى {ما} التي تنفي الفعل، فتصير كأنها مؤكِّدة ما هو كبعض الفعل؛ لأن الفصل ها هنا بالمفعول به، وهو {من شيء} وبقوله: {من دونه} ومعناه: {ما عبدنا} غير شيء، فيكون بمعنى الاستثناء، وليس شيء من هذين مؤكِّداها، وجاءت: {ولا آباؤنا} وكانت (لا) مؤكِّدة، إلا أنها لم تلِ علامة الضمير المعطوف عليها؛ لحجزه بينهما بقوله: {من دونه من شيء}.

والحواجز إذا كثرت وبَعُدت ما بين الكلمتين، اختير إعادة العامل، مع أن في المتقدم كفاية، كقوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} (الكهف:30) وكقوله: {أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} (النمل:67) وكقوله: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} (المؤمنون:35) فلما بَعُدَ الخبر، وهو {مخرجون} من {أنكم} الأولى، أُعيدت.

وإذا كان ذلك كذلك فيما طال الفصل فيه، وكان الفصل في قوله تعالى: {ما عبدنا من دونه من شيء} قد طال بجارَّين ومجرورين بين علامة الضمير في {عبدنا} وبين (لا) المؤكِّدة لـ (ما) التي تنفي الفعل، الذي علامة الضمير في تضاعيفه، كجزء من أجزائه، وكحرف من حروفه، احتاج الضمير في العطف عليه إلى ما يؤكده؛ فلذلك أدخل {نحن} ها هنا، ولم تدخل في قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا}.

وقد أجاب ابن الزبير الغرناطي عن السؤالين المتقدمين بجواب مختصر، حاصله: أنه لما تقدم آية الأنعام قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} (الأنعام:146) وهذا إخبار عن بنى إسرائيل فيما حَرَّم عليهم، ثم ورد بعدها قوله تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا} (الأنعام:150) وهو خطاب لهم أيضاً، فقد اكتنف الآية المذكورة ما مرجعه إلى بنى إسرائيل فيما حُرِّمَ عليهم، وما ألحقوه بذلك تحريفاً وتبديلاً، ووردت آية الأنعام مورد ما يَرِدُ من الجمل الاعتراضية؛ لاتصال ما بعدها بما قبلها، فلم يكن ليلائم ذلك الإسهابُ وطولُ الكلام؛ إذ الوجه فيما يرد اعتراضاً أن يؤخَّر. وأما آية النحل فلم يتقدمها خطاب لغير العرب، مؤمنهم وكافرهم، وقد أطنب في تذكيرهم ووعظهم، وبسط لهم ذكر نِعَمٍ ودلائل، فناسب ذلك الإسهاب الوارد فيها، من قوله: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} ولم يكن ليناسب آية الأنعام ما ورد هنا من إسهاب، ولا الإسهاب الوارد هنا يناسب ذلك الإيجاز الذي في الأنعام.

وأجاب الكرماني عن السؤالين بجواب مختصر أيضاً، وحاصل جوابه: أن لفظ (الإشراك) في آية الأنعام يدل على إثبات شريك، لا يجوز إثباته، ودل على تحريم أشياء، وتحليل أشياء من دون الله، فلم يحتج إلى لفظ: {من دونه} بخلاف لفظ (العبادة) في آية النحل، فإنها غير مستنكَرَة، وإنما المستنكَرُ عبادة شيء مع الله سبحانه وتعالى، ولا يدل على تحريم شيء، كما يدل عليه (أشرك) فلم يكن لله هنا من يعتبره بقوله: {من دونه}. ولما حذف {من دونه} مرتين، حذف معه {نحن} لتطرد الآية في حكم التخفيف.

وأجاب ابن جماعة عن السؤالين بجواب لا يخرج عما تقدم، وحاصل جوابه: أن لفظ (الإشراك) مُؤْذِنٌ بالشريك، فلم يقل: {من دونه} بخلاف {عبدنا} ليس مؤذناً بإشراك غيره؛ فلذلك جاء: {من دونه}. وأما زيادة {نحن} فإنه لما حال بين ضمير الفاعل (نا) في {عبدنا} وبين ما عطف عليه حائلٌ، وهو قوله: {من دونه} أكد بقوله: {نحن} وفي آية الأنعام لم يَحُلْ بين الضمير والمعطوف عليه حائلٌ، فجاء كل بما يناسب. والله أعلم بمراده.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة