الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تصحيح المفاهيم " مفهوم التدين "

تصحيح المفاهيم " مفهوم التدين "

تصحيح المفاهيم " مفهوم التدين "

قد يدمن الإنسان على بعض المفاهيم الخاطئة مما يتسبب في انحراف سلوكي في حياة ذلك الإنسان، ولذلك كانت من مهمات النبي صلى الله عليه وسلم تصحيح المفاهيم الخاطئة، وتقويم التصورات المغلوطة، فاستطاع صياغة العقول والنفوس صياغة فريدة، ولا غرابة فإن الوحي الذي هو أساس الهداية في كل شيء قد صاحبهم لحظة بلحظة يوجههم ويقوم مسيرتهم.

ومن تلك المفاهيم التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بيانها وتوضيح معالمها "مفهوم التدين" الذي كان ولا يزال عرضة للتصور المغلوط، والفهم القاصر، مما يؤدي إلى ممارسات خاطئة ولو كانت مع حسن النية، والرغبة في الخير، ويزيد البلاء أن بعض الناس قد ينسب أخطاء التدين إلى الدين نفسه، فيزداد الالتباس، مما يجعلنا بحاجة إلى ترشيد التدين في حياتنا من خلال التوجيهات النبوية الكريمة.

أولا: بيان طبيعة الدين
ركز النبي صلى الله عليه وسلم على توضيح طبيعة الدين ليتحدد بناء عليه طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين هذا الدين، وهو ما نسميه "التدين"، فالتدين هو تمثل الدين، من خلال فهمه، وتطبيقه، وإعماله في الحياة العامة والخاصة، ففهم الدين يعتبر أهم ركائز التدين، ولا يمكن تطبيقه إلا بعد فهم طبيعته ومقاصده وخصائصه.

ومن ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ" رواه البخاري.

وحديث ابن الأدرع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة» رواه الإمام أحمد في المسند.

وغيرها من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى وهي كثيرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر بهذا الأصل بين كل فترة وأخرى، لا سيما إذا لمس من بعض الصحابة جنوحا إلى الغلو أوالتشدد، وإلزام النفس بما لم يلزمها به الشرع، فيذكرهم بأن الدين بطبيعته لا يقبل مثل تلك التشددات التي تجعل المتدين عرضة للانقطاع والانقلاب على الدين بالكلية، وتلك قضية في غاية الأهمية في صدد ترشيد مفهوم التدين، وهي كالأساس الذي ننطلق منه إلى غيره.

ثانيا: التحذير من التدين المشوه
يمكننا القول بأن من صور الانحراف في مفهوم التدين التي عالجها النبي صلى الله عليه وسلم، هو "التدين المشوه" إن صح التعبير، وله صور كثيرة، فالتدين المجتزأ الذي يحصل من البعض، بحيث يقتصر في تدينه على الشعائر الظاهرة، ثم لا يرى للتدين أثرا في معاملته مع الخلق، وهذا للأسف الشديد من أبرز صور الانحراف التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم من وقت مبكر، وذلك من خلال الحديث المشهور بحديث "المفلس"، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم.

ولا غرابة أن يكون مآل هذا التدين إلى الإفلاس والخسارة؛ لأنه انفصام حقيقي في مفهوم التدين، إذ كيف يستقيم حال من يصلي، ثم إذا فرغ من صلاته لم يسلم أحد من لسانه ويده بالبغي والظلم والعدوان، والفاجعة الكبرى أن يبدو لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا يحتسبون، فشعائرهم التي جاءوا بها كالجبال تتلاشى أمام تلك المظالم التي كانوا يظنون أن الدين لا علاقة له بها، وهكذا قل مثل ذلك في حق من يصلي ويصوم ويتصدق ولكنه غير متدين في الاقتصاد، فيرابي، ويحتكر، ويغش، ويخدع، ويستثمر في الحرام، ظانا أن تلك مساحة متروكة لشطارته ودهائه، وكان مقتضى التدين الصحيح أن تنضبط معاملاته المالية وفق تعاليم الإسلام؛ إذ لا فرق بين الأمر بالصلاة، وبين النهي عن الربا على سبيل المثال، فكلها مصدرها من الله، وكلها سيسأل الإنسان عنها باعتبارها من الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وهكذا المتدينة من النساء بالصلاة والصيام والحج والعمرة، ثم لا تلتزم بما أمرها الله به من غض البصر، وحفظ الفرج، وستر البدن، وغيرها من المحرمات التي لا تصدر ممن عرفت الدين حق المعرفة، ومتدين آخر يصلي ويتصدق ثم لا يجد حرجا من ممارسة بعض الفواحش وارتكاب المحارم، والخطورة في هذا الأمر أن هذا النوع من التدين المشوه يسري بين الناس، ومع طول الأمد قست القلوب، وتطبعت مع تلك المنكرات، فلم يعد الواحد يشعر بأي تناقض بين صلاته وشعائره وبين واقع حياته الذي لا يحكمه الدين وإنما الهوى والشهوات.

ثالثا: الاستقامة أحد ركني التدين
تمثل الاستقامة أحد ركني التدين الحقيقي، وذلك بعد تحقيق الركن الأول الذي هو الإيمان الجازم، ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة الاقتران بينهما حتى يكون التدين مستوفيا لحقيقته، وذلك في مقالته الجامعة للرجل الذي جاء يسأله خلاصة يستقيم عليها دينه، بحيث لا يحتاج إلى سؤال غيره، كما في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم» رواه ابن حبان في صحيحه.
قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم: " والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها ".
وبمقارنة ذلك في واقع التدين عند بعض المسلمين نجد أنهم يفتقدون لركن الاستقامة، مما يجعل تدينهم ناقصا بحسب ما ينقص من استقامتهم، حتى يصل البعض إلى أن يكون تدينهم ادعاء لا حقيقة له، فهو متدين بلسانه، ولكن لم يستقم قلبه ولا جوارحه على مقتضى الدين، وهذا ما نبه إليه الحديث السابق، ومن خلاله يمكننا معالجة هذا الانحراف من خلال بيان أن الاستقامة ركن لا يصل الإنسان إلى الله إلا به.

رابعا: العلم شرط للتدين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يبني تدين أصحابه على أساس العلم بالله وبدينه وشرعه، ولذلك كان يقول لهم: "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له" رواه البخاري ومسلم، حين لمس منهم الميل للرهبنة، وكأنه يرشدهم إلى العلم بالشرع الذي يفقههم بطرق الوصول إلى الله، ويحذرهم من اختراعات عقولهم لتدين ما أنزل الله به من سلطان، بحيث يحرمون على أنفسهم ما أحل الله، فشرط التدين ألا يعبد الله إلا بما شرع، وطريق ذلك العلم، وكأنه يقول لهم: أنا أخشاكم لله لأني أعلم به وبشرعه الموصل إليه، وبهذا يتبين أنه لا تدين إلا بالعلم، والعلم قبل القول والعمل كما أثر من تبويبات البخاري الشهيرة في صحيحه.

وهكذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان الشافي كل الفرائض والأحكام، ونهى الأمة أن تتقرب إلى الله إلا بما علمهم إياه، ففي الصلاة "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري عن مالك بن الحويرث، فالتدين لله بالصلاة متوقف على العلم بأحكامها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحج "خذوا عني مناسككم" رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله، وهكذا في سائر الأبواب لا يعبد الله إلا بما شرع، وكله مشروط بالاتباع، والعلم هو الموصل لذلك كله.

ولذلك لما تباعد الناس عن العهد النبوي والقرون المفضلة، تسربت إلى الناس طرائق من التدين المبني على الجهل، فشاعت البدع، وظهرت المقالات الباطلة، وتبنت كل طائفة أصولاً مغلوطة، وقعدت لها قواعد بغير هدىً من الله، فدانوا بالجهل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يزال التدين الصحيح في نقص بقدر ما نقص من العلم وزاد من الجهل، ولهذا فالحرب القائمة اليوم تعتمد في إضعاف التدين على تجفيف منابع العلم الديني والشرعي، بحيث تتعرض الأمة لتجهيل ممنهج رغبة في انحسار التدين في الأمة، ولا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في نشر دينه في الآفاق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

والخلاصة أن التدين بمفهومه الصحيح هو ما كان نابعاً من طبيعة الدين القائمة على الاعتدال واليسر والرحمة والعدل، وكان مبنيا على العلم والفهم، متكاملاً غير مجتزأ، يجمع بين تدين الظاهر والباطن، وأداء حق االله مع حسن التعامل مع خلقه، ويجمع بين الإيمان والاستقامة، وأي تدين أخل بهذه الثنائيات المتلازمة فقد أخل بالتدين الذي يرضاه الله تعالى من عباده.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة