الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ

كان من رحمة الله تعالى بعباده فيما فرضه عليهم من أحكام، وأنزله من تشريعات؛ أن جعل فرضه منجَّمًا، أي فرضه عليهم على مراحل، وذلك حتى لا تثقل الفرائض على النفوس فتنفر، قالت عائشة في ذلك: "إنما نزل أول ما نزل منه -أي القرآن- سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدًا" رواه البخاري.

وكان من الفرائض التي فرضها الله تعالى على هذه الأمة، وتجلت في فرضيتها رحمته تعالى بعباده، وسنته في التدرج في فرض الأحكام والآداب: فريضة الصيام، فالله تعالى قد كتب الصيام على هذه الأمة كما كتبه على الأمم قبلها، ولكن حكم تلك الفريضة لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل على ثلاث مراحل، شأن بعض الأحكام التي لم ينزل حكمها دفعة واحدة؛ وذلك لأن الصيام شاق على النفوس ثقيل، ويصعب على النفوس التي لم تعتد عليه تقبل أحكامه من أول مرة؛ فاقتضت حكمة الله تعالى أن يفرض الصيام على الناس بالتدريج لتعتاد النفوس عليه وتألفه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة: 183 - 185].
اشتملت هذه الآيات على جملة من الأحكام والآداب، تجلت فيها رحمة الله بعباده، وحكمته التي فرض الصيام لأجلها، فرحمته بينها بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إي أن الصيام عبادة قديمة في الأمم قبلكم فلكم فيهم أسوة، قال البقاعي في ذلك: "في التأسي إعلاء للهمة القاصرة، وإسعار وإغلاء للقلوب الفاترة؛ لأن الشيء الشاق إذا عم سهل تحمله"، ثم بينَّ سبحانه علة هذه الفريضة فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وهي أن يكون الصيام حاملًا لهم على التقوى التي هي سبب النجاة والفوز في الآخرة، ثم بينت الآيات التدرج الذي نزل فيه فرض الصيام على هذه الأمة، حيث فرض على ثلاثة مراحل كما ذكر ذلك جمع من المفسرين.
كانت المرحلة الأولى من فرض الصيام أن الله تعالى لـمَّا فرض على المؤمنين الصيام جعله واجبًا على التخيير، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم وذلك رحمةً بهم، ولكنه سبحانه ندبهم خلال ذلك إلى الصيام، وأنه أفضل من الفطر، فقال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وذلك لتعتاد نفوسهم على تلك الطاعة، حتى إذا ما فرضت عليهم فرض إلزام تقبلتها، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنه قال: «كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين»، حتى أنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
ثم كانت المرحلة الثانية بأن نسخ الله تعالى ما كان من تخيير في الصيام، وصار الصيام واجبًا على من أدرك رمضان بالغًا عاقلًا، مقيمًا مستطيعًا، وذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ودلَّ على هذا حديث سلمة بن الأكوع السابق، وكان مع نسخ التخيير أن الرجل كان له أن يأكل ويشرب إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك، قال ابن كثير: "فمتى نام، أو صلى العشاء؛ حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة".
وقد ذكر البراء بن عازب رضي الله عنه جانبًا من المشقة التي تعرض لها المسلمون في ذلك فقال: " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، رواه البخاري.
ثم كانت المرحلة الثالثة من فرض الصيام فنسخ الله تعالى ما كان من مشقة على المسلمين، وصار حكم الصيام إلى ما نحن عليه اليوم، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وقد قال ابن القيم في حكمة ذلك التدرج في فرض الصيام: "لما كان غير مألوف لهم ولا معتاد، والطباع تأباه إذ هو هجر مألوفها ومحبوبها، ولم تذق بعد حلاوته وعواقبه المحمودة، وما في طيه من المصالح والمنافع فخيرت بينه وبين الإطعام وندبت إليه فلما عرفت علته يعني حكمته والفقه وعرفت ما تضمنه من المصالح والفوائد حتم عليها عينا ولم يقبل منها سواء فكان التخيير في وقته مصلحة وتعيين الصوم في وقته مصلحة فاقتضت الحكمة البالغة شرع كل حكم في وقته لأن المصلحة فيه في ذلك الوقت".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة