الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كل مولود يولد على الفطرة

كل مولود يولد على الفطرة

 كل مولود يولد على الفطرة

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ)، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].

معنى الفطرة: هي الحالة التي يكون عليها الإنسان عند ولادته قبل دخول المؤثرات الخارجية عليه.
أو هي الصورة التي يُخلق الإنسان عليها عند خروجه إلى هذه الحياة.

ومعنى أن (كل مولود يولد على الفطرة): أي أن الله سبحانه ركَّب فيه نوعا من الجِبِلَّة يكون معها متهيِّأ لقبول الحق طبعا وطوعا واختيارا، لو تركته شياطين الإنس والجن.

وفي رواية: (ما مِن مَولودٍ يُولَدُ إلَّا على هذه الـمِلَّةِ (أي على ملة الإسلام)، حتى يُبِينَ عنه لِسانُه، فأَبَواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُشَرِّكانِه)

قال ابن القيم: معناه: "جعل فطرته مقتضية لقبول الإسلام لأنه الدين الحق الموافق للفطرة السلمية والعقول المستقيمة".
يعني أن الإنسان إذا تُرِك بدن مؤثر خارجي فالمفروض أنه يقر بوجود الله وأحقيته بالعبودية وحده.

قال ابن كثير رحمه الله: "فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره".
ذلك أن الفطر السليمة توجب أن يكون لهذا العالم العجيب العظيم ربٌّ خلقه وأوجده، مالك له ومدبر له ومتصرف فيه، وأن هذا الربَّ هو المستحقُّ وحده أن يُعبَد ويُوحَّد، وأن تصرف إليه جميعُ صنوفُ العبادةِ {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم}. ثم ينبغي أن يكون هو الذي يأمرُ فيطاع، وينهى فلا يعصى( ألا له الخلق والأمر).

الميثاق الأول
وهذا هو مقتضى الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على آدم وذريته وهم في عالم الغيب، قبل أن يوجدهم إلى عالم الشهادة.
مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريتَه كلها على هيئة الذر في صور الناس، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟! فأقروا له بذلك، وقالوا: بلى شهدنا..
كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمۖ قَالُوا بَلَىٰۛ شَهِدْنَاۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}[الأعراف:172].

وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام، بنعمان ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قِبَلا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمۖ قَالُوا بَلَىٰۛ شَهِدْنَاۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} إلى قوله: {المبطلون}[رواه أحمد وغيره].

هذه الفطرة الأولى {فطرت الله التي فطر الناس عليها} .. ولكن الشياطين شياطين الإنس والجن، لم يرضوا لهم بذلك، ولم يقبلوا أن يبقوا على هذه الفطرة السليمة، فجاءوا إليهم واجتالوهم عنها، وأفسدوا هذه الفطر ونقلوا كثيرا منهم عن الدين الحق دين الإسلام إلى غيره من الملل الباطلة والنحل الفاسدة.

وكان إبليس قد أقسم لله بهذا، أنه لابد أن يهلك هؤلاء الخلق جميعا، كما حكى الله عنه في القرآن: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}[الأعراف].

وقال سبحانه حاكيا عنه قوله في سورة النساء: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119)}

يخلق الله الإنسان سويا في فطرته فيفسدها عليه مربوه فيشوهوها (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء) أي سليمة ليس فيها نقص، فما زال إبليس بهم حتى قطعوا آذانها وشوهوا خلقتها.. كما شوهوا فطر الناس وجبلتهم التي فطرهم الله عليها.

روى مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ،(يعني مائلين عن الشرك)، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا).
وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ)، وفي الرواية الأخرى: (أو يُشَرِّكانِه).

وهذا الكلام فيه أمران مهمان:
أولهما: أن دين الفطرة الذي يقبله الله تعالى إنما هو دين الإسلام، الدين الحنيف دين إبراهيم وملته التي جاء بها ختام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًاۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:123] وأن الله لا يقبل غيره من الأديان أو النحل والملل.

الفائدة الثانية: أن الله سبحانه جعل الإسلام في جانب وبقية الملل والنحل والعقائد والأديان في جانب آخر، فقال: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه).. فجعلها كلها مقابل دين الفطرة دين الإسلام، وسوى بينها جميعا في البطلان.. ولم يقبل منها شيئا. كما قال عز وجل في محكم آياته: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران:19]، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

دور التربية وأثرها
وفائدة أخرى مهمة
في هذا الحديث المبارك:
وهي دور التربية وأثرُها على الإنسان، وكيف أنها ـ إن لم تكن على المنهج الحق وطريق الصدق، ومنهج النبوة ـ تنقل صاحبها إلى الاعتقاد الباطل وتفسد فطرته، وتحولها عما هداها الله إليه إلى قبول الباطل ومناهج الضلال..

نسأل الله أن يهدينا إلى طريق الحق والهدى، وأن يقينا وذرياتنا طرق الغواية والضلال والردى.. إنه خير مسؤول، وأعظم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فأما اليتيم فلا تقهر

إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنو على الصغار وتحفظ حقوقهم وتنظم علاقاتهم فلا يستذل فيها ضعيف لضعفه،...المزيد