العقيدة الإسلامية إذا أُطْلِقت فهي عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة القرون الثلاثة المفضلة مِن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}(التوبة:100). قال ابن كثير: "أخبر الله العظيم أنه قدْ رضي عنِ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان". وعن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فِرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقتِ النصارى على ثنتين وسبعين فِرْقة، فإحدى وسبعون فرقةً في النار وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لَتَفتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، واحدةٌ في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله، من هم؟ قال: الجماعة) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وفي رواية للترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (قالوا: ومَنْ هي يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي).. وأهل السنة والجماعة هم مَنْ كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المتمسِّكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذين استقاموا على الاتِّباع وابتعدوا عن الابتداع في أي مكان وفي أيِّ زمان. قال الشيخ ابن عثيمين: "وسمُّوا بذلك (أهل السنة والجماعة) لانتسابهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واجتماعهم على الأخذ بها: ظاهرًا وباطنًا، في القول، والعمل، والاعتقاد".
والعقيدة الإسلامية هي الإيمان الجازم بالله عز وجل، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة مِنْ أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، وما أَجمع عليه السَّلف الصَّالح.. وفي الحديث النبوي الذي رواه مسلم وغيره الذي بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإيمانِ والإسلام والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم في تعريفه للإيمان: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّه).
الغَيْبِيَّة مِنْ خصائصِ العقيدة الإسلامية:
الخصائص جمع خِصيصه، والخصيصة هي الصفة الحسنة البارزة المميزة التي يتميّز بها الشيء ولا يشاركه فيها غيره، والعقيدة الإسلامية ـ عقيدة أهل السُنة ـ لها الكثير مِن الخصائص والصفات البارزة التي تُظهر حُسْنها وكمالها، وتميزها عن بقية العقائد، ومِنْ هذه الخصائص: سلامة المصدر، وذلك باعتمادها على القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، وقيامها على التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والربانية، والشمولية، وموافقتها للفطرة السليمة والعقل السليم، والوسطية فلا غلو فيها ولا تفريط.. ومِن خصائصها كذلك: الغيبية.
والغيب هو ما غاب عن الحِسِّ، فلا يُدْرَك بشيء مِنَ الحواس الخمس: السمع، والبصر، واللمس، والشم، والذوق. قال الجرجاني في "التعريفات": "الغيب: الأمر الخفي الذي لا يُدْرِكه الحِسّ".
والمراد من أن العقيدة الإسلامية من خصائصها الغيبية: أن مبناها على التسليم والتصديق المُطْلَق بما جاء عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا بوجود الغيب، ـ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، والجنة والنار.. وغير ذلك من أمور الغيب ـ .. كما تعني ـ الغَيْبية ـ وجوب الإيمان بكل ما ورد في النصوص الشرعية ـ من الكتاب والسنة النبوية الصحيحة ـ من أمور هذا الغيب، وعدم رد شيء منها، وذلك لأن مصادر هذا الغيب مجزوم بصحتها لأنها موقوفة على كتاب الله عز وجل، وما صح مِنْ سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا مجال للعقل في إدراكها، وقد يكون في بعض الأمور العقائدية ما يدركه الإنسان بعقله السليم وفطرته النقية، لكن تبقى أصولها وتفاصيلها غيبية لا تُعْلَم إلا مِن خلال النصوص الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة. قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح العقيدة الواسطية": "ويجب أن يكون اعتمادنا في الأمور الغيبية على الأدلة السمعية (القرآن الكريم والأحاديث النبوية)، لكن لا مانع من أن نستدل بأدلة عقلية".
وقد مدح الله تعالى المؤمنين بإيمانهم بالغيب، ويشمل إيمانهم بالغيب اعتقادهم بوجود الله تعالى، وتصديق ما جاء وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من حقائق تتعلق بالأمور الغيبية. قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(البقرة:5:1). قال ابن كثير: "عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله، وكذا قال قتادة.. وقال السُدي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذُكِر في القرآن". وقال الطبري: "عن قتادة في قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة، وكلُّ هذا غيب". وقال القرطبي: "{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} اختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه، وضعفه ابن العربي، وقال آخرون: القضاء والقدر، وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب، وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها، قلتُ: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه، قال: صَدَقْتَ).. وقال عبد اللَّه بن مسعود: مَا آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}".
وقال السعدي: "{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحِس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله. ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك".
فائدة:
1 ـ من أصول الإيمان بالله عز وجل ولوازمه، ومِنْ مُقْتَضَيَات "أشهد أن محمدا رسول الله" التصديق الجازم والتسليم الكامل بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور غيبية، وإذا وُجِدَ ما يوهِم التعارض بين النقل (الآيات القرآنية والأحاديث النبوية) في أمر مع العقل، وجب تقديم النقل على العقل، لأن النقل ثابت، والعقل متغير، ولأن النقل معصوم والعقل ليس كذلك، وفي العقيدة الإسلامية لا تناقض في الحقيقة بين المعقول والمنقول.. ولما كان العقل السليم يشهد لما جاء به القرآن الكريم وجاءت به السنة النبوية، فإن العلماء يستشهدون بدلالة العقل ويُقرِّرون دلالته على ما نطق به الكتاب والسنة، وليس من باب استقلال العقل بالدليل إثباتا أو نفيا لأمر غيبي، فتجد العلماء مثلا يقولون: "وهذا باطل ظاهر البطلان شرعا وعقلا"، أو "فهذا مما يعلم ببديهة العقل بطلانه" ونحو ذلك. قال الشيخ ابن عثيمين: "فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها، لا أقول: مدخل للعقل فيها، وإنما أقول: لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإنْ كان العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال، لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفات الكمال".. فكما أن الإيمان بالغيب يقوم على أساس متين من النقل ـ القرآن الكريم والسنة النبوية ـ، فهو يقوم كذلك على أساس متين مِنَ الفطرة النقية والعقل السليم. قال ابن تيمية: "الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول.. ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضاً، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة".
وإذا وُجِدَ ما يوهِم التعارض بين النقل الصحيح في أمر غيبي مع العقل، وجب تقديم النقل على العقل، قال ابن قدامة المقدسي في "لمعة الاعتقاد": "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصحَّ به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصِدْق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج وكان يقظة لا مناما.. ومن ذلك أشراط الساعة، مثل خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم.. وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل. وعذاب القبر ونعيمه..". وقال الشيخ ابن عثيمين: "كان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بما يشاهدونه بأعينهم أو أكثر".
2 ـ أهل السُنة يعلمون ويؤمنون بأن الأحاديث النبوية الصحيحة في إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية وحْيٌ من الله تعالى، يجب الإيمان بها وتصديقه فيها، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:4:3). قال السعدي: "أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه، {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره، ودل هذا على أن السُنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}(النساء:113)، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يُوحَى". وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أَسمَعُه مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَه، فنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وقالوا: أَتكتُبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُه ورسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟ فأَمسَكْتُ عن الكِتاب (فامْتنعتُ عن الكِتابة)، فذَكَرْتُ ذلكَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأَوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيه، فقال: اكتُبْ، فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُجُ منه إلَّا حق) رواه أبو داود وصححه الألباني.
الغَيْبيَّة وتعني الإيمان بالغيب وما ورد مِنْ أمور هذا الغيب، مِنَ الركائز الكبرى والخصائص العظمى في العقيدة عند أهل السُنة، ومِن أعظم مقامات الدين، وقد ورد في فضل المؤمنين بالغيب وعظم أجرهم الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. قال ابن كثير: "عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إنَّ أمر مُحمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(البقرة:5:1)". وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "الإيمان بالغيب أجَلّ (أعظم) المقامات على الإطلاق". وقال في قول الله تعالى: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(آل عمران:179): "فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يُطْلِع عليه رُسُلَه، فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
مقدمات عامة