الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

عندما أرسل الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أمته أرسله لمقاصد عظيمة وأصول مطالب أساسية ذكرها الله تعالى في كتاب {يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}
وكان من الأصول التي زكى النبي بها أصحابه، وأمر بها أمته، وأمرنا بها أيضا إذا أردنا أن نزكي أنفسنا، تربيتهم على التزام الصدق في كل أمورهم وأحوالهم، وفي كل أوقاتهم وأقوالهم، وفي كل أفعالهم وأحوالهم.. وهذا ما دعا الله تعالى الأمة أن تكون من أهله، بل أن نكون مع أهله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة:119).

ونحن حين نتكلم عن الصدق إنما نعني الصدق بمعناه الشامل الكامل، الذي لما عرفته الأمة وتمسك به المؤمنون الأولون وعاشوه سادوا وقادوا وعلوا، وصاروا خير أمة أخرجت للناس، ودانت لهم البلاد، وفتح الله لهم قلوب العباد، ولما غابت عن الأمة حقيقته ولم تلتزم العمل به هانت وضاعت وصار الحال كما ترون وكما تعلمون.

الصدق الذي نعنيه هو الصدق الذي أراده الله في كتابه، وهو الصدق الذي وصف الله به دينه كله فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(الزمر:33). وقد قال بعض أهل التفسير: الذي جاء بالصدق هو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، والصدق الذي جاء به هو الإسلام العظيم، والذي صدق بذلك هو الصديق أبو بكر والمؤمنون.

الصدق الذي نعنيه هو الذي وصف الله به خير الأمة بعد نبيها، الذين باعوا أموالهم وأنفسهم وأولادهم وأوطانهم لله تعالى ولرسوله فوصفهم الله فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر:8).

الصدق الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله إياه في مدخله ومخرجه وفي عمله كله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}(الإسراء:80).

الصدق الذي قال عنه أهل العلم: هو استواء السر والعلانية، واستواء الظاهر والباطن، واستواء المدخل والمخرج.
وقالوا: الإخلاص يحتاج إلى الصدق، والصدق لا يحتاج إلى شيء.
فالصدق بهذا المعنى هو الصدق الذي جاء به الدين، وهو زاد المسلم في طريقه إلى الله، ومدد يستمد منه العون في كل مرحلة من مراحل حياته.

مفهوم الصدق في حياة المسلم
الصدق الذي نعنيه هو الذي إذا اتصف به المسلم فقد جمع الخير كله؛ لأن الإنسان إذا اتصف بالصدق:
صَدَق في قوله:
فلم يكذب في جِد ولا في هزل؛ لأنه يعلم أن الكذبَ ليس من صفاتِ المؤمنين ولا يتماشى مع أساسياتِ هذا الدين، وإنما يعلمُ أن صدقَ القول هو مبدأ الصديقية ومفتاحُها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا)[متفق عليه].

وأما الكذب فهو مضادٌ ومنافٍ للإيمان، بل هو ملازمٌ للنفاق وصفة من صفات أهله، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان).
وحذر صلى الله عليه وسلم من الكذب، وأنه سبيل الفجور وطريق النار فقال: (وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].

المسلم إذا صدق صدق في نيته:
لأنه يعلم أن الإخلاص وصدق النية هو أساس قبول العمل، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:2]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]، والله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك كما في الحديث القدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)[رواه مسلم]، وفي رواية ابن ماجه: (فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك).

فالمسلم الصادق يعلم أن الكذب في النيات محبطٌ للعمل، مضيعٌ للأجر، موجبٌ للعذاب، كما في حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنهم أول من تُسَعَّر بهم النار، وذكر المنفقَ والعالم والشهيد، وقد أحسنوا جميعا العمل، ولكنهم كذبوا في نيتهم وأساءوا نواياهم فأحبط الله أعمالهم وأدخلهم النار.

المسلم إذا صدق، صدق في عزمه:
فهو يعزم على فعل الخير ويهم بالطيب الجميل، لأنه يعلم أن المؤمن يثاب على عزمه كما في حديث ابن عباس عند البخاري: (فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة)..
ومن صدق العزم صدق الوفاء به متى تهيأ له وتمكن منه، كما في قصة أنس بن النضر رضي الله عنه فإنه لما فاتته المشاركة في غزوة بدر تأسف لذلك كثيرا وتألم، وقال: أول وقعة بين المسلمين والكفار لم أشهدها، لإن أشهدني الله قتالاً آخر ليرين الله ما أصنع.. فكان هذا عزما منه رضي الله عنه، فلما كان يوم أحد وانهزم الناس لقى سعد بن معاذ فقال: "واها يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد"، وقال اللهم إني أعتذر لك عما فعل هؤلاء يعني هزيمة المسلمين، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء يعني الكافرين، ثم فانطق فقاتل حتى قتل، فوجدوا فيه بضعًا وثمانين ما بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، فما عرفته إلا اخته ببنانه. وأنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(الأحزاب:23).

وقد عاب الله أقوامًا عاهدوه ثم نقضوا عهدهم وما وفوا بعزمهم فقال فيهم وفي أمثالهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(التوبة:75 - 78).

المسلم إذا صدق، صدق في أعماله:
فلا يقوم الإنسان يصلي يظهر الخشوع وقلبه يهيم في أودية الدنيا، ويمشي مطرق الرأس في حالة المتواضعين وهو يحب الكبر والمتكبرين، فلابد أن يوافق حالك الظاهر عند العمل حالك الباطن، وإلا فهو النفاق.

الصدق في الأحوال وفي مقامات الدين:
فيصدق في إيمانه، ويصدق في إحسانه، وفي إخباته، يصدق في خوفه، وفي رجائه، وتوكله، وحبه، وإنابته، و.. و.. إلى آخره.
فإذا ادعى منزلةً من هذه المنازل نظر إلى صفات أهلها وأحوالهم، وعمل على تحقيقها في نفسه ليكون صادقا فيما ادعاه.

فإن ادعى أنه من المؤمنين فإنه يبحث عن صفات أهل الإيمان فيتخلق يها ليكون من المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}(الأنفال:2ـ4). وأيضا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحجرات:15).

وإذا ادعى الإحسان عبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه سبحانه يراه. خصوصا في الخلوات، تعلم أن الله عالم بك، مطلع عليك، يرى ما تفعل ويسمع ما تقول، ولا يغيب عنه شيء من أمرك، فلا تجعله أهون الناظرين إليك.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل .. .. خلوت، ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغــفـل ســـــاعة .. .. ولا أن مــا تخـفيه عنه يغيب

المؤمن إذا صدق مع الله لم يطلق بصره فيما ما حرم الله، ولم يلق سمعه إلى خنا أو شيئا مما حرمه الله، ولا حرك لسانه إلا بما يرضي الله.

المؤمن إذا صدق في حيائه من الله، استحي أن يراه الله حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره، فإذا دعي إلى الصلاة سارع إلى الصلاة، وإذا أمر بالصدقة سارع إليها، وإذا نودي للجهاد كان من المبادرين إليه، وإذا مر بمكان يعصى الله فيه سارع في الفرار منه حياء من الله أن يراه مع من يعصيه.

الصدق جزاء الصادقين
المقصود أيها الحبيب أنك إذا حققت الصدق عشت الإسلام كله بكماله وجماله، وعشت الحياة الطيبة في هذه الدنيا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا التزم الصدق كان خيرًا له في العاجل والآجل قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(المائدة:119).
وأهل الصدق في الدنيا هم أهل الصدق في الآخرة ولهم عند الله قدمُ الصدقِ ومقامُ الصدق، قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (يونس:2). وقال جل جلاله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}(القمر:54، 55).

فاللهم اجعلنا من الصادقين في الدنيا ومع الصادقين في الآخرة..
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فأما اليتيم فلا تقهر

إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنو على الصغار وتحفظ حقوقهم وتنظم علاقاتهم فلا يستذل فيها ضعيف لضعفه،...المزيد