الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ضبط الدوافع الفطرية في السنة النبوية

ضبط الدوافع الفطرية في السنة النبوية

 ضبط الدوافع الفطرية في السنة النبوية

يقع الإنسان في دائرة التردد بسبب تزاحم الدوافع وتنازعها، بحيث يكون بين دوافع قوية، كل واحد منها يجذبه إلى ناحيته، وكلما حاول المضي في اتجاه أحدها قوي في نفسه سلطة الدافع الآخر، وهذه حالة إنسانية متكررة، ولكن الإسلام جاء بتهذيب رغبات الإنسان، وكبح دوافع الشر فيها، وتقوية الدوافع إلى الخير، ولكن حين يكون الدافع إلى الشر قويا فإنه يضعف دافع الخير، حتى يفقد الإنسان ما يدفعه إلى طريق الإيمان والسلامة، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المنافق، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مثل المنافق، كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة». ومعنى العائرة بين الغنمين كما قال القاضي عياض في كتاب المعلم بفوائد مسلم: "المترددة بينهما لا تدري أيتّهما تتبع".

وبالنظر في حقيقة هذا الصراع بين دوافع الخير والشر، وانفعال الإنسان معها سلبا أو إيجابا يعرف أن هذا هو أساس التكليف الذي قام عليه الشرع، فالمسلم يبقى يصارع كوامن الشر في نفسه، ويدافع الرغبات والشهوات المحرمة بمحكمات الشرع، وسلطان التدين، ولا يزال هذا شأنه حتى ينجو ويسلم له دينه، وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشهد بصورة واقعية ملموسة، ففي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعْنَ فيها، وجعل يحجزهن ويغلبْنَهُ فيتقحمن فيها، قال فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزِكم عن النار، هلمَّ عن النار، هلمَّ عن النار فتغلبوني تَقَحَّمُون فيها».
فمن الناس من لا يزال يصارع الشهوات الحسية بالقوة الروحية المكتسبة من الوحي، فيضعف سلطان الهوى شيئا فشيئا حتى تكون الغلبة لسلطان الدين، ولكنه قد يضعف في بعض الأحيان، فيبقى متيقظاً حتى لا تأتيه شهوة على حين غرة فتوقعه في المحذور، ومن الناس من قد سلم زمام نفسه لهواه يتبعه حيث توجه به، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذين الصنفين، كما في الترمذي وغيره عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
وقد جاء في السنة ما يمكن أن نطلق عليه كوابح للشهوات، وهي مفيدة في التحذير من الاندفاع نحو الرغبات المهلكة، ومن تلك التحذيرات الكابحة، ما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» وفي حديث ابن بشار: «لينظر كيف تعملون».
وقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم الحل العادل لهذا الصراع والتنازع بين تلك الرغبات المادية، والحاجات الروحية بالتوسط والتوازن، بحيث يأخذ الإنسان حظه من تلك الرغبات المادية بسبلها المشروعة، والإقبال على تكميل النفس وتزكيتها بالإيمان والعمل الصالح، والأعمال التعبدية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يقتدى به في هذا الكمال الإنساني الذي جمع بين حق الروح والبدن، والدنيا والآخرة، وحقوق الله وحقوق الخلق، فهو الذي قال: «حُبِّبّ إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه الإمام أحمد عن أنس.
ومن التوجيهات النبوية في التعامل مع الدوافع النفسية النهي عن الاستجابة المفرطة لتلك الدوافع وإن كانت مباحة؛ لأنها توقع المسلم في الإسراف والتبذير، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهم الدوافع الإنسانية، وهي الأكل والشرب واللباس، وفيها يقع الكثير من التوسع المذموم، ففي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة»، وروى ابن حبان عن المقدام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسبُك يا ابن آدم لُقيْمات يقمْنَ صُلبك، فإن كان لا بد فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفَس».
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة تشبيهية، ليقرب بها صورة الاستغراق في إشباع الدوافع النفسية لجمع المال والتكثر منه، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض» قيل: وما بركات الأرض؟ قال: «زهرة الدنيا» فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه يُنَزَّلُ عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، فقال: «أين السائل؟» قال: أنا - قال أبو سعيد: لقد حمدناه حين طلع ذلك - قال: «لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حَبَطاً أو يُلِم، إلا آكِلَة الخُضْرة، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت الشمس، فاجْتَرَّت وثَلَطَتْ وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوة، من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع».
وقوله: "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم" معناه كما في شرح محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم: أن نبات الربيع وخضره يقتل "حبطا" بالتخمة لكثرة الأكل أو "يلم" أي: يقارب القتل، إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فإنه لا يضر وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه فهذا يهلكه أو يقارب إهلاكه.
فهذا المثل الأول في الحديث لمن يستكثر من المال، ويجمعه ولا ينفقه، فهو كالماشية التي استكثرت من خضر الربيع، وغرها حلو طعمه، فحُبِس في بطنها فقتلها أو قاربت.
وأما المثال الثاني: لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، فلا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها فهو بنجْوة من وبالها، فشبهه بآكلة الخضر من المواشي، ذلك أنها إذا شبعت منها بركت مستقبلة عين الشمس (اجترت) أي أخرجت الجرَّة وهي: ما تخرجه الماشية من كرشها لتمضغه، ثم تبلعه تستمرئ بذلك ما أكلت (وثلطت) أي: ألقت رجيعاً سهلاً رقيقاً، فزال عنها الحَبَط وهو الهلاك بالتُّخمة.
وهذا الحديث يتضمن توجيها مهما في ترشيد دوافع اكتساب المال في نفس المسلم، بحيث يحرص على كسبه بوجوهه المشروعة، فإذا اجتمع عنده المال أخذ حاجته، وأنفق منه على أهله وذويه، وأخرج حق الله فيه، وإلا كان المال مصدر هلاك أو ما يقارب الهلاك، وستكون آكلة الخضرة أفقه من بعض بني البشر، حيث قد أخذت حاجتها ثم تخلصت من بقائه المهلك لها.
وهكذا لو تأملنا السنة النبوية لوجدنا فيها اهتماما بالغاً بدوافع النفس البشرية، وتهذيبها، وترشيدها، فقد نظمت الدوافع الجنسية الفطرية أيضا، ولا سيما في مرحلة الشباب، من خلال الحث على العمل واستغلال الفراغ بالجهد البدني والعقلي الذي يصرف عن التفكير فيها، ومن خلال الحث على الزواج حال الاستطاعة، والاعتياض عنه بالصوم حال العجز، والحث على تزويج البنات حال توفر الخاطب الكفؤ، والتحذير من عواقب منعهن أن يحصل شر وفساد كبير، ويتصل بترشيد الدافع الجنسي ما جاءت به السنة المطهرة من سد أبواب الفتنة بين الرجال والنساء من الأمر بغض البصر، وتحريم الخلوة بالمرأة، والنهي عن الدخول على المغيبة التي لا محرم لها، وسفر المرأة بغير محرم، والأمر بالستر والحجاب، والتحذير من الحَمْوِ وهم أقارب الزوج من غير محارم الزوجة، والأمر بالتفريق بين الأبناء في المضاجع من وقت مبكر، وغير ذلك من التوجيهات المهمة في سبيل كبح جماح الدوافع الفطرية بين الرجال والنساء، وقطع كل الذرائع الموصلة إلى انحرافها.
وقل مثل ذلك في دافع العدوان الكامن في النفس البشرية، فقد جاءت السنة المطهرة بتحريم إيذاء الآخرين بالقول أو بالفعل، والتحذير من كل سلوكيات العدوان والاستطالة، كالسخرية، والتحقير، والغيبة والنميمة، وأكل أموال الناس بالباطل، وترويع الآمن، وسائر التصرفات العدوانية، وكثيرة هي التوجيهات النبوية التي تهذب دوافع النفس البشرية العدوانية.
والالتزام بهذه التوجيهات النبوية تحمي هذه الدوافع الفطرية من الانحراف والشذوذ كما هو مشاهد في المجتمعات التي لا تؤمن بهذه المنظومة النبوية من التوجيهات والتعاليم السامية، فقد انحرفت تلك الرغبات، وتردت بهم الشهوات، وتحول الإنسان إلى حيوان مفترس، تسوقه الدوافع، وتحركه الرغبات، فانفرطت أخلاقياته، وتبددت علاقاته، فانتشرت الفواحش، وتجاوزوا ذلك إلى الشذوذ، وتضخمت الرغبة بالمال حتى تفننوا في أساليب الغش، والخداع، والربا، والتجارة المحرمة، وهكذا في العدوانية المفرطة التي أفرزت الحروب العالمية والإقليمية والمحلية، والتوسع في إنتاج ما يدمر هذا الإنسان، ويقوض وجوده البشري، كل هذا وراءه دوافع غير منضبطة بقيم ولا أخلاق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة