الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إخْبار النبي بموت أبي ذَرٍّ وَحْده

إخْبار النبي بموت أبي ذَرٍّ وَحْده

إخْبار النبي بموت أبي ذَرٍّ وَحْده

أبو ذَرٍّ رضي الله عنه مِنْ أوائل مَنْ دخلوا في الإسلام، فكان رابع ثلاثة في الإسلام، أو خامس أربعة. قال ابن عبد البر: "كان خامس رجل أسلم". وقال عنه الذهبي في "سِير أعلام النبلاء": "أحد السابقين الأولين، مِنْ نجباء أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، قيل: كان خامس خمسة في الإسلام، ثم إنه رُدَّ إلى بلاد قومه فأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، فلما أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إليه أبو ذر صلى الله عليه وسلم ولازمه وجاهد معه.. وكان يفتي في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان.. وكان رأسًا في الزهد والصدق، والعلم والعمل، قوالًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.. وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر". وقال ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة": "هو أبو ذر جُندب بن جُنادة الغفاري نسبة إلى بني غفار.. مِن السابقين إلى الإسلام، قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فأسلم، وهو رابع أربعة، أسلم قبله ثلاثة فقط. فلما أسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري"..
ومِن المعلوم أن الموت وما يتعلق به علم اختص به الله عز وجل وحده، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً}(آل عمران:145)، وقال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(لقمان:34). وقد أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بزمان أو كيفية موت بعض أصحابه وأهل بيته، وكذلك موت بعض أعدائه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض ذلك وتحقق وِفْق ما أخبر وتنبأ به، وكان ذلك من دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه، إذ لا يمكن لأحد معرفة ذلك ولا التنبؤ به إلا من قِبلِ اللهِ عز وجل علام الغيوب، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}(الجـن:27:26). قال البغوي: "هو عالم الغيب: فلا يظهر، لا يطلع، على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة التي تخبر عن الغيب". وقال السعدي: "{إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرُسل ليسوا كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا مِنَ الخَلْق".

ومِن النبؤات التي تنبأ بها النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية موت بعض أصحابه: نبؤته بأن أبا ذر رضي الله عنه سيموت بفلاةٍ من الأرض يَشهدُه جماعة من المسلمين. ومعنى بفلاة من الأَرض: أي في أرض صحراء واسعة مُقفرة، وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
عن أمِّ ذرٍّ رضي الله عنها قالت: (لما حضرتْ أبا ذرٍّ الوفاةُ بكيتُ، فقال أبو ذر: ما يُبكيك؟ فقلتُ: ما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ في فَلاةٍ من الأرض، ليس عندي ثوبٌ يَسعُكَ كفناً، ولا يَدَانِ لي في تَغييبك، قال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفرٍ أنا فيهم: ليَموتَنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرض يَشهدُه عصابةُ (جماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين) من المسلمين، وليسَ أحدٌ من أولئكَ النفرِ إلا وقد ماتَ في قرية وجماعة، فأنا ذلك الرجل، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريق. فقلتُ: أَنّى وقد ذَهبَ الحاجُّ وتقطَّعتِ الطرقُ، فقال: اذهبي فتبصَّري، قالت: فكنتُ أُسندُ إلى الكَثيبِ (الرمل) أتبصّرُ، ثم أرجعُ فأمَرضه، فبينما أنا وهو كذلك، إذ أنا برجالٍ على رحالِهم، كأنهم الرّخَمُ (نوع من الطير)، تَخُبُّ بهم رواحلُهم، قالت: فأشرتُ إليهم فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليَّ، فقالوا: يا أمة الله ما لكِ؟ قلتُ: امرؤٌ من المسلمين تُكفِّنونه، قالوا: ومن هو؟ قلتُ: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قلتُ: نعم، فَفدَوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا عليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفرٍ أنا فيهم: لَيَموتنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يشهدُه عصابةٌ من المؤمنين، وليس من أولئك النفرِ رجلٌ إلا وقد هلكَ (مات) في جماعة، والله ما كَذَبتُ ولا كُذبتُ) رواه أحمد وابن حبان وحسنه الألباني والأرناؤط.
وقد ذكر ابن هشام في "السيرة النبوية"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، والحاكم في "المستدرك" قصة وفاة أبي ذر رضي الله عنه ـ وقد ضعف بعض العلماء هذه الرواية ـ وفيها: "عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال يتخلف الرجل، فيقولون يا رسول الله: تخلف فلان، فيقول: دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، فتلوم (تمكث وتمهل) أبو ذر رضي الله عنه على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده..".
وفي "السيرة النبوية" لابن هشام"، و "البداية والنهاية" لابن كثير، و"دلائل النبوة" للبيهقي: "قال عبد اللَّه بْن مسعود: "لَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ إلَى الرَّبَذَة (مَوضِع قُرب الْمَدِينة) وأصَابه بِها قَدَرُه (جاءه الموت)، لَمْ يَكُنْ مَعَه أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتُه وغُلَامُه، فَأَوْصَاهُمَا أَنْ اغْسِلَانِي وكَفِّنَانِي، ثُمَّ ضَعَانِي عَلى قَارِعَة الطَّرِيق، فَأَوَّل رَكْبٍ يَمُرُّ بكم، فقولوا: هذا أبو ذر، فلما مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود رضي الله عنه يبكي، فقال: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَمْشِي وَحْدَك، وَتَمُوت وَحْدَك، وَتُبْعَثُ وَحْدَك. ثُمَّ نَزَل هُوَ وَأَصْحَابُه فَوَارَوْه (دفنوه)، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عبد اللَّه بْن مَسْعُودٍ حَدِيثَه، وَمَا قال له رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في مَسِيرِه إلى تَبُوك". وقال ابن كثير: "والحديث مشهور في موته رضي الله عنه بالربذة سنة ثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان بن عفان، وكان في النفر الذين قدموا عليه (وهو) في السياق عبد الله بن مسعود وهو الذي صلى عليه".
لقد طمأن أبو ذر رضي الله عنه زوجته بمقدَم منْ يعينها على دفنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخبراً عن الصحابي الذي يموت بفلاة: (يشهده عصابة (جماعة) من المؤمنين)، وجزْمُ أبي ذر رضي الله عنه أنه ذلك الرجل، لأن الباقين ممن شهدوا هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قد ماتوا في قرية أو جماعة، ولم يبق إلا أبو ذر رضي الله عنه وحده، وفي هذا دليلٍ من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لإخباره عن أمر غيبي مُسْتَقْبَلي وقع كما وصفه وتنبأ به، وهذا مما لم يعلمه إلا بوحي من الله عز وجل.

أصحابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كالنُّجوم في السَّماء، ولكُلِّ واحِدٍ منهم مَيزَة اختُصَّ بها على غيره، ومن هؤلاءِ الصَّحب الكرامِ: الصَّحابيُّ الجليل أبو ذَرٍّ الغِفاريّ رضي الله عنه، الذي تميَّز بمَزيدٍ من الصدق والتَّواضع، بحيث يَقرُب مِنْ عيسى عليه الصلاة والسلام. أخرج ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"، وابن أبي شيبة، وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ سرَّه أن ينظر إلى تواضعِ عيسى، فلْينظرْ إلى أبي ذرٍّ). أي: مَن أرادَ أنْ ينظر إلى مَن يُشابِه نَبيَّ اللهِ عيسى ابنِ مَريَم عليه الصلاة والسلام في تواضُعِه، فلْيَنظُرْ إلى أبي ذَرٍّ، أي: فلْيَنظُرْ إلى تواضُعِ أبي ذَرٍّ، فإنَّ أبا ذَرٍّ تميَّزَ بمَزيدٍ من التَّواضع، ولِينِ الجانِب، وخَفضِ الجَناح، وكَفِّ النَّفْسِ عن الشَّهواتِ بحيث يَقرُب مِنْ عِيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان في ذلِك على غايَةِ الكَمال، ونِهايَة التَّمام.. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ (الأرض)، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ (السماء)، مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبي ذَرٍّ) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال السندي: "الْمُرَاد به أَنَّه بَلَغ في الصِّدْق نِهَايَتَه والْمَرْتبَة الأَعْلى".. وفي "تحفة الأحوذي": "قوله: (أصدق مِن أبِي ذر) مبالغة في صدقه، لا أنه أصدق مِنْ كُلٍّ على الإطلاق، لأنه لا يكون أصدق مِنْ أبِي بَكْرٍ بالإجماع، فيكون عاما قد خصَّ".

وقد تُوفي أبو ذر رضي الله عنه بالرّبْذَة (شرق المدينة المنورة وتبعد عنها قرابة 170 كم) سنة 32هـ / 652م، بفلاة من الأرض، وتولى تجهيزه ودفْنه جماعة مِنَ المسلمين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي هذا دليل من دلائل النبوة، فإن ما وقع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الإخبار بكيفية موت بعض أصحابه وآل بيته، وبعض أعدائه فبوحي مِنَ الله تعالى للدلالة على صدقه ونبوته، وقد قال الله عز وجل عن نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:4:3).. والسيرة النبوية زاخرة بالأمثلة من الدلائل والمعجزات في إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمر غيبي مستقبلي وقع كما أخبر به، وفي ذلك قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
نبيٌ يرى ما لا يرى الناسُ حولَه ويتلو كتابَ الله في كل مشهد
فإن قال في يومٍ مقالةَ غائبٍ فتصديقُها في ضحوة اليومِ أو غد
وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابَه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهُدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة