الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بلاغة الغريب في الحديث النبوي1-3

بلاغة الغريب في الحديث النبوي1-3

 بلاغة الغريب في الحديث النبوي1-3
غريب الحديث نعني به الألفاظ التي وردت في الحديث النبوي وهي الكلمات قليلة الاستعمال في الحديث النبوي، وليس المقصود قلة الاستعمال في زماننا بل حتى في العهد النبوي، ولكن ورود اللفظ الغريب في الحديث النبوي ليس المقصود منه الإعجام والإغراب، بل له أبعاد بلاغية ودلالية، فكثيرا ما نجد أن وراء استعمال اللفظ الغريب أن اللفظ المراد لا يؤدي تمام المعنى المراد، فعدل عن استعماله لمعنى يتميز به الغريب.

يقول الخطابي في إعجاز القرآن: "اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعاني، ويحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب".

أمثلة تطبيقية من غريب الحديث:

1. واسلل سخيمة صدري:

ورد ذلك في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي، ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك أواها، لك مطواعا، لك مخبتا أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسْلُلْ سَخِيْمَةَ قلبي».
فلفظ "اسْلُلْ" في المعنى المعجمي تعني: خروج الشيء برفق وسهولة، قال في لسان العرب: السَّلُّ: انتزاعُ الشَّيْءِ وإِخراجُه فِي رِفْق، وانْسَلَّ وتَسَلَّلَ: انْطَلَق في استخفاء. الجوهري: وانْسَلَّ مِنْ بَيْنِهِمْ أَي خَرَجَ. وَفِي الْمَثَلِ: رَمَتْني بِدائها وانْسَلَّتْ. وقول حسان: لأَسُلَّنَّك مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرة مِنَ الْعَجِينِ.
واستخدام هذه اللفظة مع غرابتها إلا أنها أدل على مقصود الكلام من غيرها، فلفظ الإخراج أو الانتزاع قاصر عن الوفاء بالمعنى السابق، وهو الإخراج بسهولة ورفق ولين.

2. سخيمة:
السخيمة كما يقول أهل المعاجم الحقد والضغينة، واللفظ مأخوذ من سخام القدر، وهو السواد الذي يكون فيه من أثر تعرضه للنار، وسخام الفحم: سواده، وليل سخام: أسود، ويطلق السخيم على اللحم المتغير، وخمر سخيم أي يميل إلى السواد، وهذا اللفظ أبلغ في تأدية المعنى المراد، فقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم سواد القدر لما يكون في القلب من الضغينة والحقد، ووجه التشابه بين هذه الصورة الحسية لسواد القدر والصورة المعنوية لضغينة القلب أن ذلك لا يحدث للقلب مرة واحدة، بل يتغير القدر شيئا فشيئا، وكذلك ضغينة القلب، وأن سواد القدر يحجب صورته وصفاء معدنه، فكذلك الضغائن تطمس بصيرة القلب وتكدر صفاءه، وتغير طباعه.

3. تشميت:
ورد هذا اللفظ في صحيح مسلم عن أنس بن مالك، قال: عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان، فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست أنا فلم تشمتني، قال: «إن هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله».
قال ابن منظور في لسان العرب: شمت: الشماتة: فرح العدو؛ وقيل: الفرح ببلية العدو؛ وقيل: الفرح ببلية تنزل بمن تعاديه، والفعل منهما شَمِتَ بِهِ، بالكسر. التَّشْمِيتُ والتَّسْميتُ: الدعاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؛ والمعجمةُ أَعلاها. شَمَّته وشَمَّتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّوامِتِ الْقَوَائِمِ، كأَنه دُعاءٌ لِلْعَاطِسِ بِالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبْعَدَك اللَّهُ عَنِ الشَّماتةِ، وجَنَّبك مَا يُشْمَتُ بِهِ عَلَيْكَ.
ولا شك أن تشميت العاطس، والدعاء له بأن لا يصيبه ما يكون سببا في الشماتة به موافق لحاله، فقد يكون العطاس علامة على إصابته بالمرض واضطراب الحال، فيكون اختيار هذا اللفظ أنسب للحال وأبلغ في الدعاء.
4. يجرجر:
ورد هذا اللفظ في الصحيحين عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نارَُ جهنم».
وأما ضبط ألفاظ الحديث، فقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: اتفق العلماء من أهل الحديث واللغة والغريب وغيرهم على كسر الجيم الثانية من يجرجِر، واختلفوا في راء النار في الرواية الأولى فنقلوا فيها النصب والرفع وهما مشهوران في الرواية وفي كتب الشارحين وأهل الغريب واللغة والنصب هو الصحيح. وأما معناه فعلى رواية النصب الفاعل هو الشارب مضمر في يجرجر أى يلقيها فى بطنه يجرع متتابع يسمع له جرجرة وهو الصوت لتردده في حلقه وعلى رواية الرفع تكون النارُ فاعلَه، ومعناه: تصوت النار في بطنه، والجرجرة هي: التصويت، وسمي المشروب ناراً لأنه يؤول إليها. انتهى

وأما الوجه البلاغي في اختيار هذا اللفظ الغريب فهو من خلال الاستعارة الجميلة التي تضمنها لفظ "يجرجر" حيث استعار مشهد البعير الذي يصوت حال الضجر لحال ذلك الإنسان الذي يعذب، تنفيرا للنفوس من الشرب بآنية الذهب والفضة، وهو تصوير للمعاني المغيبة في مشهد محسوس ليكتمل التصور الإنساني للعاقبة التي يجزى بها لو فعل ذلك الفعل، إضافة إلى التركيبة الصوتية للكلمة التي كرر فيها حرفا الجيم والراء وكأنها تصور حركة الماء المنحدر بصوت متكرر، فلو استخدم مرادفة أخرى لقصرت عن هذا المعنى بتمامه.

قال ابن عبد البر في الاستذكار: وأما قوله "إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" فالجرجرة ها هنا: صوت الماء في حلق الشارب أو في الإناء، والمقصود به صوت جرع الشارب إذا شرب، وهي كلمة مستعارة مأخوذة من جرجرة العجل من الإبل، وهي هديره وصوت يسمع من حلقه يردده، قال امرؤ القيس: إِذَا سافه الْعُودُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
أي: رغا لبعد الطريق وضعوبته.

5. الفذ:
ورد هذا اللفظ في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تعدل خمسا وعشرين من صلاة الفذ».
جاء في مرقاة المفاتيح في معنى الفذ بأنه: الواحد الذي ترك الجماعة، قال الطيبي: يقال فذَّ الرجل من أصحابه، أي: انفرد وشذ عنهم، ففيه إشارة إلى أن الواحد إذا صلى منفردا بعذر يحصل له ثواب الجماعة.
ولفظ الحديث وإن كان ظاهره عموم الانفراد سواء لعذر أو لغير عذر، لكن الفقهاء يفرقون بينهما، قال ابن عبد البر: المتخلف لعذر لم يقصد تفضيل غيره عليه، والمراد من تخلف بلا عذر.

قال في المرقاة: لأن الأحاديث قد دلت على أن أجر المعذور لا ينقص عما يفعله لولا العذر، فروى أبوموسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً». رواه أحمد والبخاري وأبوداود، وعن أبي هريرة مرفوعاً: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً». (متفق عليه) انتهى.
فاختيار لفظ "الفذ" تعطينا معنى إضافيا على مجرد الانفراد، وهو الشذوذ المتعمد عن الجماعة، قال ابن منظور في لسان العرب: والفذ: الواحد، وقد فذَّ الرجلُ عن أصحابه إذا شذَّ عنهم وبقي فردا.

ومن تأمل وجد العناية باختيار ألفاظ الحديث النبوي وفق أساليب البلاغة ومراسيم الفصاحة، وأن أساس الاختيار هو النهوض بالمعنى المراد على التمام والكمال، ولا غرابة فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح وأبلغ من نطق بالضاد
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشْفاً من الدِّيَمِ
وستأتي بقية التطبيقات بإذن الله تعالى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة