
مِنْ أعظم نعم الله تعالى على عباده أن يُبَلغهم شهر رمضان، فقد فضَّل الله عز وجل هذا الشهر المبارك على سائر الشهور والأيام، فهو فيها كالشمس بين الكواكب، وتاج على رأس الزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُبَشِّرُ أصحابه رضوان الله عليهم بقدومه، لِمَا فيهِ مِنَ الخيرِ الكثير، والفضائل والبركات العظيمة، فكان يقول لهم: (أتاكم شهرُ رمضان، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّة، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ (تُشَدُّ الأغلالُ والسَّلاسِلُ) فيه مَرَدَةُ الشياطين (رُؤساءُ الشَّياطين)، وفيه ليلةٌ (ليلة القدر) هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم) رواه النسائي. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن صام رمضان إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه) رواه البخاري..
وكان الصحابة رضوان الله عليهم ـ لِمَا عَلِموه مِنْ فضل وعِظَم شهر رمضان ـ يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم هذا الشهر العظيم، ويدعون الله ستة أشهر بعده أنْ يتقبله منهم..
ولا شك أن العاقل الحازم يحرص كل الحرص على استغلال ذلك الشهر المبارك، فالمحروم حقاً مَنْ ضيَّع هذه الفرصة، وأدرك هذا الشهر ولم يُغْفَر له، فاستحق الذل والإبعاد بدعاء جبريل عليه السلام وتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال جبريل: (يا مُحمد! مَن أدرك شهر رمضان فمات، ولم يُغفر له، فأُدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقال: آمين) رواه الطبراني.
وإذا كان الله سبحانه دعا عباده إلى التوبة الصادقة النصوح في كل زمان، فإن التوبة في رمضان أوْلى وآكد، لأنه شهر تُسْكَبُ فيه العبرات، وتُقال فيه العثرات، وتُعتق فيه الرقاب من النار، ومن لم يتب في رمضان فمتى يتوب؟!
وللتوبة شروط ستة لابد من توفرها لكي تكون صحيحة مقبولة: أولها: أن تكون خالصة لله تعالى. ثانيها: أن تكون في زمن الإمكان، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن تبلغ الروح الحُلقوم، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.. وثالثها: الإقلاع عن الذنب، فلا يصح أن يدَّعي العبدُ التوبة، وهو مقيم على المعصية. ورابعها: الندم على ما كان منه، والندم ركن التوبة الأعظم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الندمُ توبة) رواه ابن ماجه. وخامسها: العزم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل، وسادسها: رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منهم، إن كان الذنب مما يتعلق بحقوق المخلوقين..
فمن تاب إلى الله تَوبةً نَصوحًا محققا هذه الشروط السابقة، تابَ اللهُ عليه، وعامَله مُعامَلةَ مَن لم يُذنِبْ، بل يُبدِّلُ سيِّئاتِه حسَنات، وتحقق فيه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (التَّائبُ مِن الذَّنبِ كمَن لا ذنْبَ له) رواه ابن ماجه..
وإذا كان هذا حال التائب بوجه عام، فما بالنا بالتوبة والرجوع إلى الله في رمضان.. ذلكم الشهر المبارك الذي تتنزل فيه الرحمات، وتُغْفَر فيه الذنوب والسيئات، وتُضاعف فيه الأجور والحسنات، وتُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، ويعتق الله فيه عباده من النيران..
كم يتمنى أهل القبور أنْ يعودوا إلى الدنيا ليدركوا هذه الأيام المباركات من شهر رمضان، فيعمروها بطاعة الله، لتمحى خطيئاتهم، ويُعتقون من النار، وكم مِنْ مُؤَمِّلٍ لبلوغ شهر رمضان حان أجله وقُبضت روحه قبله بليال، فكم فاته من الخيرات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.. عن طلحَة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما، فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجعا إلى، فقالا لي: ارجع، فإنه لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مِن أي ذلك تعجبون؟ قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد اجتهادا ثم استشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟ فقال: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، وأدرك رمضان فصامه؟ قالوا: بلى، وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعد ما بين السماء والأرض) رواه ابن ماجه.
إنْ إدراكنا لشهر رمضان نعمة عظيمة من نعم الله علينا، فهو فرصة ذهبية، نعقد فيها الصلح مع الله، ونتوب ونرجع إليه، ونحن لا ندري هل سيأتي علينا رمضان القادم ونحن على قيد الحياة أم لا؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رغِم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغفر له) رواه الترمذي. وهذا دعاءٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بالذّل والصّغَار للذي يدخل عليه رمضان ويخرج، ولم يتب ويرجع إلى الله، تأتيه الفرص، وتمر عليه المواسم والمناسبات، ولا يستفيدَ منها، ولا يغتنمها..
فحَرِيٌّ بنا وقد أكرمنا الله بلوغ هذا الشهر المبارك الكريم، أن نتخفَّف مِنَ الأوزار، ونُقلع عن المعاصي والسيئات، ونتوب إلى الله توبة صادقة، ونجعل من رمضان موسماً لتقويم أعمالنا، وتصحيح مسيرتنا، ومحاسبة أنفسنا، فإنْ وجدنا خيراً حمدنا الله وازددنا منه، وإنْ وجدنا غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرنا منه، وأكْثَرْنا من عمل الصالحات.. فإن لم نتغير في رمضان، فمتى نتغير؟ وإن لم نُصْلح حالنا وحياتنا في رمضان، فمتى؟! وإن لم نرجع الآن ونتوب، فمتى؟!!