لما كانت تلاوة القرآن الكريم مناجاةً لله تعالى، فإن القارئ ينبغي أن ينفعل مع هذه العبادة العظيمة ظاهرا وباطنا، فيبدأ بتهيئة ظاهره كما يذكره العلماء في آداب التلاوة، من الطهارة، وتنظيف الفم، والجلوس في مكان لائق نظيف وأفضله المسجد، واستقبال القبلة، والجلوس متخشعا بسكينة ووقار، والتعوذ، وتفخيم الألفاظ وإبانة الحروف، وغيرها من الآداب الظاهرة، ويبقى االحالة الباطنة من انفعال النفس مع المعاني، وتأثير القرآن على القلوب، كما ذكر الله تعالى بعضا من ذلك في سورة الزمر، فقال: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). فقد روى البيهقي في الشعب عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله - عز وجل - تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
وهذه بعض مظاهر انفعال النفوس مع القرآن:
أولا: السؤال عند آية الرحمة والتعوذ عند آيات الوعيد والعذاب:
وهذا لا يتأتى إلا مع التدبر والتفكر فيما يقرأ، وطريقته كما يقول السيوطي في الإتقان: أن يشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي ويعتقد قبول ذلك، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذ أو تنزيه نزه وعظم أو دعاء تضرع وطلب. قال النووي في التبيان: ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول: اللهم إني أسألك العافية، أو أسألك المعافاة من كل مكروه، أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه، فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جلت عظمة ربنا، ويستحب هذا السؤال والاستعاذة والتسبيح لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو خارجا منها، قالوا: ويستحب ذلك في صلاة الإمام والمنفرد والمأموم؛ لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين عقب الفاتحة، وهذا الذي ذكرناه من استحباب السؤال والاستعاذة هو مذهب الشافعي رضي الله عنه وجماهير العلماء رحمهم الله. انتهى.
وقد أخرج مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ.
وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.
ويلحق بذلك ما استحبه بعض العلماء مما روي عن السلف من التفاعل مع آيات معينة بكلمات بعضها وردت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوفة منها:
ما أخرج أبو داود والترمذي حديث: "من قرأ: {التين والزيتون} فانتهى إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى آخرها {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} فليقل: بلى. ومن قرأ: {والمرسلات} فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} فليقل: آمنا بالله".
وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} قال سبحان ربي الأعلى.
وأخرج الترمذي والحاكم عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
وأخرج أبو داود وغيره عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {ولا الضالين} فقال: "آمين " يمد بها صوته.
وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خاتمة البقرة " آمين ". وأخرج عن معاذ بن جبل أنه كان إذا ختم سورة البقرة قال: آمين.
ثانيا: التحزن والبكاء:
يذكر العلماء من آداب تلاوة القرآن أنه يستحب البكاء عند قراءة القرآن أو التباكي لمن لا يقدر عليه، والحزن والخشوع قال تعالى: {ويخرون للأذقان يبكون} . وفي الصحيحين حديث قراءة ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " فإذا عيناه تذرفان ". وفي الشعب للبيهقي عن سعد بن مالك مرفوعا: "إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا".
وفيه من مرسل عبد الملك بن عمير أن رسول الله صلى الله عليه قال: "إني قارئ عليكم سورة فمن بكى فله الجنة فإن لم تبكوا فتباكوا " وفي مسند أبي يعلى حديث: "اقرؤوا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن ". وعند الطبراني: "أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن يتحزن به ".
قال في شرح المهذب: وطريقه في تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرأ من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يفكر في تقصيره فيها فإن لم يحضره عند ذلك حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من المصائب. انتهى
ثالثا: التكرار والتوقف:
فالتكرار والتوقف لمزيد التدبر والتأمل واستحضار المعاني من أهم ما يفعله القارئ لتنفعل نفسه مع ما يتلو، وقد ورد هذا في السنة بما روى النسائي وغيره عن أبي ذر رضي اللعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية يرددها حتى أصبح: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الآية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تهذوه هذو الشعر ولا تنثروه نثر الدَّقَل (التمر الرديء)، قِفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخر السورة .
وقال ابن قدامة: " وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه، ويتدبر كلامه؛ فإن التدبر هو المقصود من القراءة، وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها ".
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عباد بن حمزة قال: " دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: { فَمَنَّ اللهُ عَلينا وَوَقانا عَذابَ السَّمُوم } (27:الطور) قال: فوقفتْ عليها فجعلتْ تستعيذ وتدعو، قال عباد: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو ".
وفيه عن القاسم بن أبي أيوب أن -سعيد بن جبير- ردَّدَ هذه الآية: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } (281:البقرة) بضعًا وعشرين مرة.
وردَّدَ الحسن البصري ليلة: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } (18:النحل) حتى أصبح، فقيل له في ذلك، فقال: إن فيها مُعتبرًا؛ ما نرفع طرفًا ولا نرده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر ".
وقام تميم الداري رضي الله عنه بآية حتى أصبح: { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } (21:الجاثية)
رابعا: الترتيل وتحسين الصوت:
قال الإمام النووي في التبيان: وقد أجمع العلماء على استحباب الترتيل قال الله تعالى { ورتِّلِ القُرآنَ تَرْتيْلاً } وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة مفسرة حرفا حرفا".
وتحسين الصوت بالقراءة من حسن التفاعل مع القرآن، فقد ورد عن البراء بن عازب –رضي الله عنه- أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في العشاء: { والتِّيْنِ والزَّيْتونْ }، فما سمع أحداً أحسن صوتاً منه. رواه البخاري.
فيسن تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها لحديث ابن حبان وغيره: "زينوا القرآن بأصواتكم " وفي لفظ عند الدارمي: "حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنا ".
وأخرج البزار وغيره حديث: "حُسْنُ الصوتِ زينةُ القرآن ". فإن لم يكن حَسَنَ الصوتِ حسَّنهُ ما استطاع بحيث لا يخرج إلى حد التمطيط.
وقد سئل أنس بن مالك –رضي الله عنه – كيف كانت قراءة النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: كان يَمُدُّ مدَّاً، أي: يطيل الحروف الصالحة للإطالة، ليستعين بها على التدَبُّر والتذكر وتذكير من يَتَذَكَّر. رواه البخاري.
ويذكر العلماء كالنووي وغيره أن القارئ يستحب له أن يقرأ الآيات بطريقة تناسب موضوعها، "فإن قرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد، أو تعظيما لفظ به على التعظيم وهكذا". فهذا من حسن الترتيل وكمال الأداء. وذكر أيضا أن من الآداب إذا قرأ نحو {وقالت اليهود عزير ابن الله} {وقالت اليهود يد الله مغلولة} أن يخفض بها صوته كذا كان النخعي يفعل. وأنه يستحب أن يقال باقي ما ذكرناه وما كان في معناه والله أعلم.
خامسا: سجود التلاوة:
من أبرز مظاهر التفاعل مع القرآن السجود حيث يستحب السجود، وهي أربعة عشر موضعا معروفة في كتب الفقه، على خلاف عندهم في عد سجدة ص من عزائم السجود، والحاصل أن القارئ يمر بأمر بالسجود فيسجد، أو يمر بإخبار عن سجود الأنبياء والملائكة وأهل العلم، أو سجود المخلوقات لربها فيسجد، وهذا يؤسس لعلاقة تفاعلية مع الآيات في أكمل صورة يجتمع للقارئ فيها الانفعال التام من خلال لفظ اللسان وتدبر الجنان وحركة الأبدان.
وقد روي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ". رواه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين عن ابن عمرقال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته ".
سادسا: الفهم والعمل:
وأعظم وجوه الانفعال مع القرآن هو فهمه والعمل به، فقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا إذا علِموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.
فقراءة السلف للقرآن كانت وسيلة لفهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به.
وقد نقل الإمام النووي في التبيان عن الحسن البصري كلاما في هذا المعنى من ذلك قوله: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها بالنهار" وقوله: "إن الرجل إذا طلب القرآن والعلم لله لم يلبث أن يرى ذلك في خشوعه وزهده وحلمه وتواضعه". وقوله: "نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، قيل: كيف العمل به؟ قال: أي: يحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهواعن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه. وفي قوله تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته} قال: "وما تدبر آياته إلا اتباعه". انتهى.