
لطالما تغنت الدول الغربية بحرية التعبير كأحد أعمدة ديمقراطيتها، واعتبرتها حقًا مقدسًا لا يُمس. غير أن هذا الشعار يتهاوى سريعًا عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن التضامن مع غزة، أو انتقاد الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، حيث تتحول حرية الرأي فجأة إلى "تهمة" يُعاقَب عليها صاحبها بالفصل أو الإقصاء أو حتى التحقيق الجنائي.
أصوات مُكمَّمة: عقوبات بسبب التعاطف
في مشهد يتكرر بوتيرة متسارعة، طُرد عدد من الموظفين والصحفيين والرياضيين في الغرب فقط لأنهم عبّروا عن تضامنهم مع غزة، أو انتقدوا ما وصفوه بجرائم الاحتلال الإسرائيلي:
في الولايات المتحدة، أُجبر عدد من الصحفيين في مؤسسات إعلامية كبرى على الاستقالة أو فُصلوا فعليًا بعد نشرهم تغريدات تدين قصف الأطفال في غزة، أو بسبب اعتراضهم على جرائم الاحتلال في الضفة الغربية. من أشهر الحالات، فصل الصحفية إميلي وايلدر من وكالة "أسوشيتد برس" بعد إعادة نشر تغريدات مؤيدة لفلسطين، رغم أن تلك التغريدات تعود لفترة دراستها الجامعية.
الغريب أن فصلها من عملها كان بعد 16 يوما من تعيينها، ورغم اعتراف بعض كبار المديرين بارتكاب أخطاء في تلك الواقعة إلا أن ذلك لم يغير من الواقع شيئا. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى اعتقال بعض الطلاب وتهديدهم بالترحيل لتعاطفهم مع القضية الفلسطينية أو لإدانتهم الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وقد أنصفهم القضاء.
في ألمانيا، واجه عدد من الأكاديميين والنشطاء التضييق، منهم من أُلغيَت محاضراته، ومنهم من رفض تثبيته في منصبه، بسبب مواقف داعمة لفلسطين. وقد طال ذلك حتى يهودًا معارضين للصهيونية، مثل الفيلسوف الأمريكي نورمان فينكلشتاين.
وفي ألمانيا أيضا، أعلن نادي ماينز في 3 نوفمبر 2024، فسخ عقد مهاجمه الهولندي المغربي الأصل أنور الغازي بعد منشورات نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد العدوان على غزة، بالتزامن مع فتح الادعاء الألماني تحقيقًا في القضية.
في نفس اليوم، أُقيلت الموظفة ناتاشا داش من عملها في شركة "آبل" بسبب وصفها لجيش الاحتلال بأنه: "القتلة واللصوص".
أما في كندا، فقد أعلنت الصحفية الفلسطينية زهراء الأخرس طردها من شبكة "غلوبال نيوز" بسبب مواقفها المؤيدة لفلسطين.
وفي فرنسا، نشر صانع المحتوى المصري كريم قباني مقطع فيديو يكشف فيه عن فصله من شركته بسبب آرائه "المثيرة للجدل" حول غزة، منتقدًا الازدواجية في المعايير، حيث طُرد بينما استُبقيت زميلته الداعمة لإسرائيل والتي استفزته بسؤال حول دعمه "للإرهابيين"، في إشارة إلى حماس والمقاومة الفلسطينية، في الوقت الذي لم يسألها عن سبب دعمها الدائم للاحتلال.
وفي بريطانيا، تم فصل مارك بونيك من نادي أرسنال بعد 22 عامًا من الخدمة، وقال بونيك: "لم أُفصل بسبب سوء سلوك، بل لأنني عبّرت عن غضبي تجاه الإبادة في غزة. لا أشعر بالندم".
أما هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، فقد استغنت مؤخرًا عن خدمات النجم الإنجليزي السابق غاري لينيكر بعد مشاركته منشورًا من مجموعة مؤيدة لفلسطين. ورغم حذف المنشور وتقديم اعتذار، وُجهت له تهمة "معاداة السامية". لينيكر كان قد صرح أن: "الضغط هائل على الشخصيات العامة كي تلتزم الصمت، لكنني لا أستطيع السكوت عمّا يحدث".
حرية التعبير... حين تصبح مشروطة
ما تكشفه هذه الوقائع أن ما يحدث ليس مجرد أحداث فردية، بل اتجاه مقلق نحو قمع الأصوات التي تتعاطف مع الفلسطينيين، حتى لو كانت هذه الأصوات تنطلق من منطلقات إنسانية بحتة. إذ بينما يُسمح بالتعبير الحر في معظم القضايا، يبدو أن القضية الفلسطينية تُعامل كاستثناء.
بل الأسوأ، أن انتقاد الاحتلال يُساوى أحيانًا بمعاداة السامية، ما يفتح الباب للتجريم والملاحقة، ويغلقه أمام النقاش الحر، حتى لو كان مرتكزًا إلى مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان.
جدير بالذكر أن هناك العديد من الكتاب والأكاديميين والفنانين اليهود قد دعوا إلى التفريق بين انتقاد الممارسات والانتهاكات الإسرايئلية بحق الفلسطينيين وبين معاداة السامية.
ازدواجية صارخة: أوكرانيا وغزة نموذجا
ويزيد من حدة التناقض أن نفس الدول والمؤسسات التي تقف علنًا إلى جانب أوكرانيا، وتُشيد بمن يدعمها ويُدين الاحتلال الروسي، هي نفسها التي تعاقب من يندد باحتلال فلسطين. هذه الازدواجية لا تضرب فقط مصداقية شعارات حرية التعبير، بل تفضح انحيازًا سياسيًا مفضوحًا على حساب القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية.
الحرية لا تتجزأ
إذا كانت حرية التعبير قيمة حقيقية، فيجب أن تشمل الجميع، دون استثناءات مبنية على خلفيات سياسية أو مصالح دولية. أما إن ظلت محصورة فيما يناسب الرواية الغربية الرسمية، فإنها تتحول إلى أداة إقصاء وليست حقًا إنسانيًا.
إن التضامن مع غزة لا يجب أن يكون جريمة. بل هو موقف أخلاقي لا يستحق الإدانة، بل الاحترام.