
رغم الانحياز الأميركي التقليدي لإسرائيل، إلا أن عددًا متزايدًا من المسؤولين والدبلوماسيين الأمريكيين شرعوا بعد مغادرتهم لمناصبهم الرسمية في كسر حاجز الصمت، والحديث بصراحة عن الاحتلال الإسرائيلي والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
وقد جاءت هذه المواقف – بعد التقاعد أو نهاية الخدمة – لتكشف عن عمق التناقض بين السياسات والمواقف العلنية، وبين ما يراه المسؤولون الأمريكيون بأنفسهم على الأرض.
ماثيو ميلر يعترف بارتكاب الاحتلال جرائم حرب في غزة
قال ميلر – المتحدث الرسمي السابق باسم وزارة الخارجية الأمريكية - في تصريحات أدلى بها خلال مشاركته في بودكاست عبر شبكة "سكاي نيوز": إنه يسترجع تلك الفترة ويسأل نفسه: "هل كان بإمكاننا الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف إطلاق النار؟ نعم، كانت لدينا تلك الفرصة عندما قُتل آلاف المدنيين الفلسطينيين الأبرياء بين مايو 2024 ويناير 2025، لكننا لم ننتهزها".
وفي تقييمه لما يجري في غزة، شدد ميلر على أنه لا يعتقد أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، لكنه يرى أن ما حدث يرقى بلا شك إلى مستوى جرائم حرب، مضيفًا أن تصريحاته اليوم تعبر عن رأيه الشخصي، خلافًا لفترة عمله كمتحدث رسمي باسم الخارجية الأمريكية، حين كانت كل كلماته تمثل الموقف الرسمي للحكومة.
لكن هل كان ميلر حالة فردية؟ أم يمثل حالة متكررة لمسؤولين تحدثوا بصراحة بعد ترك مناصبهم؟
من الواضح أن ميلر لم يكن حالة فردية لصحوة ضمير متأخرة فقد سبقه عدد لا بأس به من المسؤولين الذين اعترفوا علانية بعد ترك مناصبهم بما ترتكبه دولة الاحتلال من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، وإليك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة:
الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر
كان من أوائل من كسروا هذا الحاجز، حين نشر عام 2006 كتابًا بعنوان "فلسطين: السلام لا الفصل العنصري". قال فيه: إن سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة تشبه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ودعا إلى إنهاء الاحتلال وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم. وقد أثار ذلك غضب اللوبيات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة.
جون كيري: الاستيطان دمّر حلم السلام
قال وزير الخارجية الأسبق جون كيري في خطابه الوداعي عام 2016: إن الاستيطان الإسرائيلي "يقوّض حل الدولتين"، واعتبر أن "الحقيقة لا تخدم السلام إذا تم تجاهلها"، في نقد غير مسبوق من وزير أمريكي في منصبه.
جيمس بيكر: واشنطن رهينة النفوذ الإسرائيلي
وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر انتقد علنًا النفوذ الإسرائيلي داخل السياسة الأمريكية، ودعا إلى توازن في الدور الأمريكي يراعي الحقوق الفلسطينية، لا المصالح الإسرائيلية فقط.
مارتن إنديك: الاستيطان أفشل كل المفاوضات
السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل مارتن إنديك أقرّ بعد خروجه من المنصب أن المفاوضات التي شارك فيها فشلت بسبب تعنّت إسرائيل واستمرارها في بناء المستوطنات، محذرًا من أن إسرائيل تتجه نحو نظام "دولة واحدة غير ديمقراطية".
دانيال كيرتزر: واشنطن مطالَبة بالحياد
سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل ومصر، انتقد علنًا المواقف الأمريكية المنحازة، وأكد أن "الدعم الأعمى لإسرائيل يفقد أمريكا دور الوسيط النزيه".
توماس بيكرينغ: على واشنطن إعادة حساباتها
الدبلوماسي المخضرم بيكرينغ دعا إلى مراجعة جذرية في الموقف الأمريكي من الصراع، وطالب بوقف دعم الاستيطان، باعتباره يخالف القانون الدولي ويؤجج الصراع.
أمنيون واستخباراتيون: الصمت خيانة لقيمنا
فيليب جيرالدي: إسرائيل تؤثر على قرارات الحرب والسلام
ضابط الاستخبارات السابق في CIA، جيرالدي، وصف اللوبي الصهيوني بأنه "أقوى من أن يُنتقد"، وقال: إن السياسة الأمريكية باتت رهينة المصالح الإسرائيلية، متجاهلة ما يعانيه الفلسطينيون من احتلال وقمع.
لورانس ويلكرسون: إسرائيل تسلك طريق الفصل العنصري
المسؤول السابق في وزارة الخارجية، وصف السياسة الإسرائيلية بأنها "عنصرية ومضرة حتى بإسرائيل نفسها"، داعيًا إلى إنهاء الاحتلال من أجل سلام عادل.
بيرني ساندرز: الدعم المشروط ضرورة أخلاقية
صوت نادر في مجلس الشيوخ رغم بقائه في المنصب، إلا أن بيرني ساندرز عبّر خلال حملته الرئاسية عن مواقف جريئة، قائلًا: "لا يمكن أن نواصل إرسال مليارات الدولارات لدولة تنتهك حقوق الإنسان"، في إشارة إلى إسرائيل.
إن هذه المواقف المتراكمة تكشف أن كثيرًا من المسؤولين هناك يدركون حقيقة ما يجري على الأرض من ظلم وانتهاكات، لكنهم يصمتون – أو يُجبرون على الصمت – أثناء توليهم المناصب. كما يُظهر ذلك بجلاء أن الحديث عن فلسطين من قبل كثير من المسؤولين مقيد بالمصالح، لا بالقيم الأخلاقية، ولا القوانين الدولية، ولا المواثيق الإنسانية، ولكن الحقيقة تجد طريقها عندما يزول الضغط السياسي والخوف.
غير أن أهم ما في هذه الصحوات المتأخرة لضمائر هؤلاء أن ما يُقال بعد مغادرة الكراسي، هو شهادة دامغة على جرائم الاحتلال، وعلى حجم معاناة الفلسطينيين، كما أنه يوجب ضرورة مراجعة الدعم الأعمى للاحتلال، بل السعي لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم.