الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من مواقف العطاء

من مواقف العطاء

من مواقف العطاء

في سجلّ السيرة النبوية، تتلألأ مواقفُ الصحابة الكرام كنجومٍ تضيء لنا الطريق، تحمل في طيّاتها صدقَ الإيمان، وعلوَّ الهمة، وبذلًا لا يعرف التردد ولا التراجع.. ومن بين تلك الصفحات المضيئة في الإنفاق والعطاء، يشرق موقف أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، حين تصدَّق ببستانه وحديقته وهي أحبّ أمواله إليه، راضيًا مطمئنًّا، بعدما سمع قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران:92).. ولم يكن عطاؤه ذاك اندفاعًا لحظة، أو تأثرًا عابرًا، بل كان ترجمانًا لرسوخ الإيمان في قلبه، وتجليًا ليقينٍ بوعد الله، ورجاءٍ في ثواب الله العظيم في الآخرة، فكان موقفه هذا حلقةً زاهية في سلسلة من المواقف الجليلة التي سطّرها الصحابة رضوان الله عليهم في صفحات الطاعة والبذل والعطاء، حتى صاروا بها مناراتٍ يُهتدَى بها، وقدواتٍ تُحتذى في دروب الحياة..

وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما قصة موقف أبي طلحة رضي الله عنه حين سمع قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران:92)..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طَلْحة أكْثر الأنْصار بالمدينة مَالًا مِن نَخْل، وكان أحَبّ أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مُسْتَقْبِلة المَسْجِد، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدْخلها ويَشْرَب مِن مَاءٍ فيها طَيِّبٍ. قال أنس: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذِه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران:92)، قام أبو طَلْحة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحَبَّ أمْوالي إلَيَّ بَيْرُحاء، وإنَّهَا صَدَقَة لِلَّه، أرجو برَّها وذُخْرَها عند اللَّه، فَضَعْها يا رسول اللَّه حَيْث أراك اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بَخٍ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، وقدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ، وإنِّي أرَى أنْ تَجْعلها في الأقْرَبِين، فقال أبو طلحةَ: أفْعَل يا رسول اللَّه. فَقَسَمَها أبو طلحة في أقَارِبِه وبَنِي عَمِّه)..
قال الشوكاني في "فتح القدير" في تفسيره لقول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران:92): "(البر): العمل الصالح، وقال ابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن ميمون، والسُدِّي: هو الجنة، فمعنى الآية: لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة، أي: تصلوا إلى ذلك، وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون، أي: حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها".. وأضاف السعدي: "هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال {لَنْ تَنَالُوا} أي: تُدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك"..
وأما قوله: (أرجو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا) تعني أن أبا طلحة يتمنى الأجر والثواب من الله تعالى على صدقته، وأن يكون هذا الأجر مُدَّخَرًا له عند الله يوم القيامة. قال الزرقاني: "أقدمها فأدخرها لأجدها عند الله تعالى".
وقال الكرماني في "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري": "(وان أحب أموالي بيرُحاء) اسم للبستان. قوله (مستقبلة المسجد) أي مقابلته، قال النووي: وهذا الموضع يُعْرَف بقصر بني جديلة بفتح المهملة قِبلي المسجد. قوله (بخ) كلمة تُقال عند المدح والرضا بالشيء.. قوله (رابح) أي يربح فيه صاحبه في الأخرة.. وفيه استحباب الإنفاق مما يحب ومشاورة أهل الفضل في كيفية الصدقات ووجوه الطاعات"..
وفصَّل ابن بطال في "شرح صحيح البخاري": "قوله: (وإن أحب أموالى إلى بيرحاء) فيه من الفقه: حب الرجل الصالح للمال.. وفيه: إباحة دخول أجنة الإخوان (أجنة جمع جنة، والمراد البستان أو الحديقة)، والشرب من مائها، والأكل من ثمارها بغير إذنهم إذا علم أن أَنْفُسَ أصحابها تطيب بذلك، وكان مما لا يتشاح فيه (يسامِح فيه وتطيب نفسه به، ولا يتنازع الناس على أخذه). قال المهلب: وفيه أن الصدقة إذا كانت جزلة أن صاحبها يُمْدَح بها ويُغْبَط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذلك مال رابح) فسلَّاه صلى الله عليه وسلم بما يناله من ربح الآخرة، وما عوضه الله فيها عما عجله في الدنيا الفانية.. ولم يختلف العلماء أن قوله: (في أقاربه وبنى عمه) أنهم أقارب أبى طلحة لا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم"..
وأضاف ابن الجوزي: "وقد دل الحديث على أن الصدقة على الأقارب أوْلى من الأجانب.. وفي هذا الحديث إباحة اتخاذ البساتين، وإباحة دخول العلماء والفضلاء البساتين طلبا للتفرج والنظر إلى ما يسلي النفس ويوجب شكر الله عز وجل. وفيه إباحة استعذاب الماء واختيار الأجود منه"..

فائدة:
مواقف أبي طلحة رضي الله عنه في السيرة النبوية تقف شامخةً كشموخ الجبال، وأفعاله تتلألأ كالنجوم في السماء، فهو الذي وقف في غزوة أحُد يعبر عن مدى حبه للنبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "بأبي أنت وأمي (فداك أبي وأمي).. نَحْري (صدري) دون نحرك يا رسول الله".. وهو الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم بشرف عظيم، نصف شعره الأيمن حين حلق في الحج، دليلاً على مكانته وفضله.. كما أنه قام بحفر قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولحَّد له بعد مماته..
وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في المعارك بقوله: (لَصَوْتُ أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة) رواه أحمد. وفي رواية للطبراني: (صَوْتُ أبي طلحة في الجَيْشِ خيرٌ من أَلْفِ رجل). ومعنى "فئة" جماعة من الناس" أو "كتيبة"، وفي ذلك دلالة على أن صوت أبي طلحة رضي الله عنه في المعركة له تأثير على المشركين، لدرجة أنه أشد عليهم من جماعة كاملة من المقاتلين، وفي الرواية الثانية أشد من ألف رجل، وذلك لشجاعته وقوته في القتال، وقدرته على إثارة الرعب في قلوب الأعداء.. قال الصنعاني: "(صوت أبي طلحة) المراد صوته الجهوري (في الجيش) قيَّده به لأن الصوت الجهوري في غير الجيش مذموم، أو لأن هذه الفضيلة تختص به فيه. (خير من ألف رجل) لما فيه من إنزال الرعب بالعدو"..
وقد قال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بني أخواله، وأحد أعيان البدريين.. واسمه: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد له أحاديث.. وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة) ومناقبه كثيرة.. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً (النيف من واحد إِلى ثلاثة) وعشرين حديثاً، منها: في الصحيحين حديثان، وتفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديث".. وأضاف ابن الأثير في "الكامل في التاريخ": "أبو طلحة، وهو زيد بن سهل بن الأسود، لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة، آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. مِن الرماة المذكورين من الصحابة، وهو من الشجعان المذكورين، وله يوم أحُد مقام مشهود، كان يقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويرمي بين يديه، ويتطاول بصدره ليقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: نحري دون نحرك، ونفسي دون نفسك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة) وفي رواية (خير من ألف)". وقال القاضي عياض: "وأبو طلحة هذا هو عم أنس بن مالك، زوج أم سليم، أنصاري نجاري خزرجي بدْري، أحد الفقهاء"..

ختامًا، يتجلّى في موقف أبي طلحة رضي الله عنه صورة ناصعة من صور الإيمان والعطاء الصادق، امتزج فيه حب المال بالرجاء فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، فكان المال في يده لا في قلبه، ورضي بأن يُفارِق حديقته أحب أمواله إليه في سبيل الله، فأصبح موقفه درسًا ومنارة في البذل والعطاء.. فطوبى لمن سارع إلى الإنفاق في سبيل الله، وجعل من ماله وإنفاقه زادًا ليومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، راجيا الأجر والثواب العظيم عند الله تعالى..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة