الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)
أما بعد: عباد الله:

لا يخفى على أحد أننا نعيش في زمنٍ طغت فيه الماديات، واستحكمت فيه الشهوات، فأصبح من الضروري والواجب علينا أن نوقظ القلوب، ونذكّر النفوس بما هو آتٍ لا محالة، ذلك اليوم المهيب الذي لا يُغني فيه مالٌ ولا بنون..
نحن في حاجة إلى أن نتذكر الموت، تلك الحقيقة الكبرى، التي يذوقها الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، والمرضى والأصحاء.. وقد اقتضت حكمة الله عز وجل، أن يجعل الموت قدرًا محتومًا على كل حيّ، مهما بلغت منزلته، وعلت درجته، ليوقن الناس جميعا أنه لو سَلِم من الموت أحد، لَسَلِم منه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزمر:30)..
الموت هو الحقيقة التي تهوي عندها عروش المتكبرين، وجبروت المتجبرين، وتُسْمِع في كل زمان ومكان: لا بقاء إلا لله، ولا دائم إلا الله ..
الموت هو الحقيقة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر مِنْ ذِكْرِها، فقال: (أكثِروا ذكرَ هاذمِ اللذات) أي الموت.
نقف في هذا اليوم مع بداية الرحلة إلى الآخرة، تلكم الرحلة التي تبدأ بالموت، وتنتهي إما بالجنة أو النار، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة..

أيها الأحبّة في الله!
الموت حق لا شك فيه، ولحظة الموت هي اللحظة التي يُغلق فيها باب الدنيا، ويُفتَح فيها باب الآخرة، بالموت يبدأ الامتحان الحق، وتنكشف الأستار، فتعالوا بنا ننظر ونتأمل ذلك المشهد، مشهد المرض والاحتضار قبيل الموت، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(ق:22:19)
والحق أننا سنموت، والله حي لا يموت..
والحق أننا إما أن نرى عند موتنا ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب..
والحق إما أن يكون قبري وقبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}..
ذلك ما كنتَ تحيد منه إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ..
ولكن، ثم ماذا أيها القوي الفتي، يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! كل باك فسيُبكى، وكل ناع فسينعى، ليس غير الله يبقى، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}(الرحمن:27:26)..
فيا أيها الإنسان اللاهي الساهي! يا من غرك مالك ووظيفتك! ويا من خدعك جاهك وسلطانك!
مهما عظمت دنياك فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة، وكل شيء له نهاية، والعمر مهما طال، لابد من الموت ودخول القبر، واعلم أنك راحل إلى الله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}(الانشقاق:6)..

تخيّل نفسك -يا عبد الله- وقد دنا أجلك، والدنيا تُدبر عنك، والآخرة تقبل عليك، وأنت على فراش الموت تحيط بك دموع زوجتك وأولادك وحيرة الأطباء، بينما جسدك يبرد ولونك يشحب، تحاول أن تنطق بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، فتشعر أن شفتيك كالجبل لا يتحرك ـ إلا مَنْ يسر الله عليه ـ..
وأنت في سكرات الموت تنظر إلى أحبّتك نظرات طويلة مليئة بالرجاء والشفقة، وكأنك تقول: يا أولادي، يا أحبابي، لا تتركوني وحدي، أنا مَنْ أحبَّكم، وبذل مِنْ أجلكم، هل منكم من يزيد في عمري ساعة؟
وهنا يأتي صوت الحق من الله: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}(الواقعة:96:83).. {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ}(القيامة:29:26).
وحينئذ: أيها الإنسان: أين لسانك الفصيح؟ أين حركتك الدائبة؟ ما أعجزك في هذه اللحظات! مَنِ الذي أسكتك؟ إنه الموت، الحقيقة الكبرى التي لا يماري فيها إنسان، ولا يجادل فيها مخلوق على ظهر هذه الأرض..

ثم ماذا بعد هذا المشهد الذي لا مفر منه، والذي سنذوقه أنا وأنت والبشرية كلها، مشهد الموت، وقد فارقت الروح الجسد، هنا، يبدأ مشهد جديد من الرحلة إلى الدار الآخرة.. مشهد غسل الميت والصلاة عليه ووضعه في القبر..
يقوم أحب وأقرب الناس لدى الميت ويذهب مسرعا إلى من يغسله، وإلى من يخرجه من البيت ويذهب به ويضعه في حفرة ـ في القبر ـ:
وَقَامَ عَنِّي أَحَبُّ النَّاسِ فِي عَجَلٍ نَحْوَ الْمَغْسَلِ يَأْتِينِي يَغْسِلُنِي
فَجَاءَنِي رَجُلٌ مِّنْهُمْ فَجَرَّدَنِي مِنَ الثِّيَابِ وَأَعْرَانِي وَأَفْرَدَنِي
وَأَوْدَعُونِي عَلَى الْأَلْوَاحِ مُنْطَرِحًا وَصَارَ فَوْقِي خَرِيرُ الْمَاءِ يَنْظِفُنِي
وَأَسْكَبُوا الْمَاءَ مِنْ فَوْقِي وَغَسَّلَنِي غَسْلًا ثَلَاثًا وَنَادَى الْقَوْمُ بِالْكَفَنِ
وَحَمَلُونِي عَلَى الْأَكْتَافِ أَرْبَعَةً مِنَ الرِّجَالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُنِي
وَأَخْرَجُونِي مِنَ الدُّنْيَا فَوَا أَسَفَا عَلَى رَحِيلٍ بِلا زَادٍ يُبَلِّغُنِي
وَقَدَّمُونِي إِلَى الْمِحْرَابِ وَانْصَرَفُوا خَلْفَ الْإِمَامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَنِي
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلَاةً لَا رُكُوعَ لَهَا وَلَا سُجُودٌ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْحَمُنِي
وَأَنْزَلُونِي إِلَى قَبْرِي عَلَى مَهَلٍ وَقَدَّمُوا وَاحِدًا مِّنْهُمْ يُلْحِدُنِي

حمله أحب الناس وأقربهم إليه، وذهبوا به إلى قبره، وأهالوا عليه التراب بأيديهم، ثم ماذا؟!! رجعوا عنه وتركوه، ولو ظلوا معه ما نفعوه، ولم يبق له ومعه إلا عمله، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقَى معهُ واحِدٌ: يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ، ويَبْقَى عَمَلُهُ)..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
أما بعد: عباد الله:

تعالوا بنا ـ في عجالة سريعة ـ نقترب من مرحلة أخرى من مراحل الرحلة إلى الدار الآخرة، إنها دار البرزخ ما بين الحياة الدنيا ويوم القيامة، إلى الدار التي سنسكنها بعد الموت، لأننا نؤمن إيماناً ويقينا صادقاً، أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران..
فالإيمان بعذاب القبر ونعيمه واجب، والتصديق به أمر لازم، ولقد تواترت الأخبار من نبينا المختار صلى الله عليه وسلم على ثبوت ذلك، فنحن نؤمن أن القبر إما روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرةٌ من حفر النيران، ونؤمن بأن من أراد الله له العذاب في الفترة البرزخية، فلا بد أن يعذب إن لم يتجاوز الله عنه، سواء قُبر أم لم يُقبر..
وقد كثرت الأحاديث النبوية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت سؤال الملكين، وعذاب القبر ونعيمه، فمن أراد الله له العذاب في الفترة البرزخية، لا بد أن يُعَذَّب إن لم يتجاوز الله عنه، سواء قُبر أم لم يقبر، فيجب الإيمان بذلك، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والله على كل شيء قدير..

وختامًا، أيها الإخوة الكرام..
نحن لا نُذكّر أنفسنا بالموت لنُدخل الحزن أو الاكتئاب على النفوس، بل لنجدد الإيمان، ونوقظ القلوب، ونذكر الغافل، ونرقّق قلب العاصي ليتوب، ونشحذ همة الطائع إلى المداومة على الطاعة والثبات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)، فإنه يُزهد في الدنيا ويُرغب في الآخرة..
فالموت ليس النهاية، بل البداية، بداية لقاء الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ.. قالَتْ عائِشَةُ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قالَ: ليسَ ذاكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ، فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ)..
فلنستعد للقاء الله، ولنهيء أنفسنا لهذه الرحلة التي سنقوم بها جميعاً، وذلك بتوبةٍ صادقة، وعملٍ صالح، وقلبٍ مُقبلٍ على الله.. ولنُراجع أعمالنا، ونُصلح ما بيننا وبين ربنا، قبل أن نُحمل على الأكتاف، ونوارَى في التراب، وما دام في العمر بقية، فالباب مفتوح، ورحمة الله واسعة، والله يقبل توبة التائب ما لم يغرغر..

اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، واختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبالرضا منك عاقبتنا..
اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرًا من حفر النيران، يا أرحم الراحمين..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة