الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده وبه نستعين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
معاشر المؤمنين: يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183). وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) متفق عليه، وذكر منها صيام رمضان، فصومه ركن من أركان الدين.
ورمضان شهر عظيم، تُفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيها أبواب النيران، وتسلسل الشياطين، شهر كله مدرسة عظيمة، منذ تربت فيه الأجيال بأمر الله تعالى بصيامه إلى أن تقوم الساعة.
والناس في هذا الزمان بين مد وجزر في استفادتهم منه، والأمر في استفادة الناس ليس إلى الشهر، فالشهر يبلغ بقدر الله تعالى، ويحل بأمره سبحانه، ولكن الأمر إلى الناس، فمن زكى نفسه؛ فقد أفاد من هذا الشهر خيراً عظيماً، ومن دساها، وتمنى على الله الأماني؛ فقد خسر خسراناً عظيماً.
إنه شهر الصبر واليقين، وبذلك تُنال الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا} (السجدة:24) ففيه عبادة الصوم، وهي عبادة جليلة، يقول سبحانه فيها: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) متفق عليه.
إن إدراك هذا الشهر وصيامه سبب لتكفير الذنوب، ففي الحديث: (إنما الصيام جُنَّةٌ، يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار) رواه أحمد. فمن كان مذنباً أو مفرطاً أو مضيعاً، فأدرك هذا الشهر، فيا هنيئاً له؛ إذ بلغ شهراً يكون له جُنَّة ووقاية من عذاب الله، ويكون سبباً في تكفير ذنوبه، ومباعدة وجهه عن النار، ففي الحديث: (من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) رواه مسلم.
إنها لفرحة عظيمة، أن يَهِلَّ علينا شهر يكون لنا جُنَّة من النار، وتكفر فيه ذنوبنا، وترفع فيه درجاتنا، وتفتح لنا فيه أبواب الجنة، وتغلق دوننا أبواب النيران، وتصفد وتسلسل الشياطين التي طالما تسلطت علينا وأغرتنا بالمعاصي. قال صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة) متفق عليه. وقال أيضاً: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم.
فالصالحون في هذه الأمة هم أحرص الناس على الخير؛ لذا تراهم قبل دخول الشهر يراجعون أنفسهم قبل أن يراجعوا خزائن الطعام، يستعدون بتغذية أرواحهم قبل أن يستعدوا بتغذية أبدانهم، يزكون أفئدتهم ويتفقدون قلوبهم ونفوسهم.
ومما تأسف له القلوب حزناً، وتزداد النفوس لأحوالهم ألماً وحسرة، أن ترى البعض إذا قدم رمضان كأنهم في ضيق وشدة، وكأن الشهر ضيف ثقيل، ينوء بكلكله عليهم، فيقطع عنهم عاداتهم وشهواتهم، لأن رمضان في نظرهم يحجب عنهم ما تعودوه من الذهاب والإياب، والسعي الدؤوب، والكدح الذي لا يعرف الملل، في أمور قد فرغت وقسمها الله تعالى.
هذا في المباح فضلاً عمن اعتاد اقتراف المحرمات ومعاقرة الشهوات والعياذ بالله، يعدون عداً تنازليًّا متى ينقضي هذا الشهر، ويفرحون بانقضاء أيامه ولياليه، فهم على مرور أيام السنة ولياليها غارقون في الملذات والشهوات والمحرمات، فإذا أتى رمضان لم يروا فيه سوى حرمان مما اعتادوه، وقطيعة عما ألفوه.
لأجل ذا كان من واجبنا أن نتميز عن استقبال الغافلين، ونتميز عن استقبال اللاهين، بأن نستقبله بكل فرح، وبكل شكر ودعاء، وبكل خضوع وسعادة أن بلَّغنا الله هذا الشهر، وكم من نفس تدفن في ليلة حلوله! وكم من نفس تبلغ أوله ولا تدرك آخره!
عباد الله: كم نغبن غبناً عظيماً في ضياع الأيام والليالي والشهور والأعوام دون أن نستفيد منها، فما بالك بأشد الغبن حينما تمر مواسم التجارة وفرص الربح العظيم، ثم تولي ولم نأبه ولم نستفد منها، وصدق رسولنا حين قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري.
فكم غُبِنَّا في أشهر ماضية، وكم غبنا في ليالٍ عديدة وأيام مديدة، ضاعت فيها فرص لنا فيها قدرة أن نبلغ أعلى الدرجات، وأن نسابق الأمم إلى مدارج الرقي والكمال، ولكننا ضيعنا تلك الغنائم التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالعناية بها حين قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الحاكم وصحَّحه.
فالحذرَ من أن تلهينا الدنيا، ثم نقبل ظالمين أنفسنا، ثم نصبح في غمرات الموت، أو نمسي نادمين على ما فرطنا من الليالي والأيام، فالعاقل يتدارك أيامه وشريف الزمان قبل أن يقول: {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (فاطر:37) وقبل أن يقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون:10) وقبل أن يقال له: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر:37).
كم من رجل يدرك هذا الشهر، فيصوم بفمه عن الطعام والشراب، ولا يصوم لسانه عن القيل والقال، ولا يصوم عن الغيبة والنميمة، يتسحر ويفطر ليهدي أجر صومه إن ثبت له أجر الصوم، ليهديه إلى الذين يغتابهم، وإلى الذين يتكلم في أعراضهم، وكثير من الناس بهذا يقعون وفي هذا يشتغلون. ( ومن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
أيها المسلمون: إن كثيراً من المسلمين، يقعون في محاذير ينبغي السلامة منها في هذا الشهر العظيم خاصة، فمن أهمها: الترف الذي يحصل والإسراف الذي يقع على موائد الإفطار والعشاء، فإن هذا شهر عبادة وليس شهر مهرجان للطعام والشراب، (وبحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) رواه ابن ماجه. الحذر الحذر من أن يبلغ الأمر إلى حد الإسراف والتبذير.
معاشر المؤمنين: ومن المحاذير التي ينبغي السلامة والحذر من الوقوع فيها ترك السحور، فعلينا أن نعتني بأمر السحور؛ فإنه سنة ثبتت عن النبي حيث قال: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) متفق عليه.
أن تنال الشرف بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ أمره، مع ما ينالك من التسبيح والاستغفار في لحظات السحر؛ لتكون من الذاكرين الله كثيراً، إن هذا أمر عظيم ينبغي أن ننتبه إليه.
ثمَّ اللهَ اللهَ في صلاة التراويح؛ فإن كثيراً من الناس لا يبرح أن يسلم بعد صلاة العشاء، ثم يطلق ساقيه للريح، يخشى أن يكون زبوناً قد سبقه أو سبق إلى دكان جاره، وكلها نصف ساعة، ما بين ركوع وسجود وقنوت وقيام، ينال فيها العبد إجابة دعوة، وتعظيماً وتسبيحاً، وقبولاً ورحمة، في ركوع وسجود ووتر وقنوت.
الصلاةَ الصلاةَ -عباد الله- فضل تكبيرة الإحرام مع الجماعة الأولى، وفضل إدراك الجماعة يعدل التراويح كلها، فلا تضيِّع أمراً جليلاً ولا تضيع أمراً فاضلاً بأمر مفضول، فالحذر من الوقوع في هذا الأمر.
ثم إن في تفطير الصائم وإطعام الطعام سبب لدخول الجنة، ففي الحديث: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) رواه الترمذي.
أيها المؤمنون: من كان يريد أن يتلذذ بكلام الله، وأن يتذوق حلاوة القرآن في سمعه وفي قلبه؛ فعليه أن يترك فضول الكلام وفضول النظر. قلِّب الأمر في بصرك، وقلِّب الأمر في سمعك، فلعلك تنظر في هذه الأمور وهذه الملهيات مما يحجبك عن لذة الخشوع والإنابة والخضوع.
صلوا وسلموا على الهادي البشير والسراج المنير... والحمد لله رب العالمين.
المقالات

