الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، ونشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: أوصيكم بتقوى الله تعالى، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النساء:131).
أيها المسلمون: بعد ساعات معدودات يُهلُّ هلال ذي الحجة؛ ليعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أن خالقهم سبحانه قد آذنهم بشهرٍ له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظٌ وتنبيه.
يلوح الهلال في السماء ليوقنوا أن فضل الله عليهم متواصل، وأن مواسم النفحات والغفران لا تزال متواليةً لمن وفقه الله لاغتنامها؛ إذ لا يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات والقربات؛ إن هو أحسن القصد، فيغدو ويروح في خمائلها، وإلا كان مُضيعاً، أو خاسراً يتعوذ بالله من مآله.
أيها المؤمنون: الحديث عن الحج ومآثره مطلب تشرئب له النفوس المؤمنة، وتمتد له أعناق المتقين المؤمنين؛ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويحدوهم الشوق إلى أن يجتمعوا للإيمان ساعةً، فيقولون: سمعنا وأطعنا؛ ليكون خيراً لهم عند الله وأقوم.
عباد الله: الحج قصد بيت الله الحرام لأداء النسك على صفة مخصوصة بينها الشارع الحكيم. وإن هذا البيت الحرام لم يُبن إلا بالتوحيد، ومن أجل التوحيد، ولأهل التوحيد، تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه.
معاشر المسلمين: الحج في الإسلام! أمارةٌ وحكمة تدعو إلى التوحيد؛ فاجتماع الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم؛ ليوحي إليهم أنه ينبغي للمسلم ألَّا يُعبد إلا الله في خوفه ورجائه، وذبحه ونذره، ورغبته ورهبته، فالله جلَّ وعلا إنما بعث محمداً بالتوحيد الخالص، وتحريم كل صور الشرك وضروبه، ومنع كل مشرك من دخول المسجد الحرام: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة:28).
وفي الحديث: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسعٍ من الهجرة من ينادي في الحج ألَّا يطوف بالبيت عريان، وألَّا يحج بعد العام مشرك) متفق عليه.
معاشر المؤمنين: فليتق الله أولئك المفرِّطون المضيعون الواقعون في براثن الشرك بالله في ألوهيته أو ربوبيته، أو الملحدون في أسمائه وصفاته: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت:40).
ألا فاتق الله يا من ترجو قبةً، أو تتوسل بوثن! ويا من تطوف بقبرٍ أو تتمسَّح بعتبة أو باب! أو يا من تعلِّق تميمة أو ودعةً أو ناباً رجاء نفع أو دفع ضر، فإن الله جل وعلا هو النافع، وهو يدفع ما بالإنسان من ضرٍّ ومصاب {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (النحل:53-54).
لقد قصَّر فئام من الناس مع التوحيد فصادموا المنقول، وخالفوا المعقول، فانحازوا إلى أصحاب القبور، وتضرعوا أمام أعتابهم، بل لقد كثر مروجوها والساعون إليها، ولقد صور بعضها عبر إنشاد القصائد، أو المدائح الطافحة بالاستغاثات والنداءات؛ التي لا تصح إلا في حق ربِّ الأرباب، وافتتن بعض الناس بالتمائم والحروز، يُعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى دفع الشر عنهم أو جلب الخير لهم، أو صرف العين وشبهها.
ففي الحديث: (أن النبي رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟! قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) رواه أحمد، وفي الحديث أيضاً: (من تعلَّق تميمة فلا أتمَّ الله له) وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد.
معاشر المسلمين! لقد نازع فريق من الناس الخالقَ تعالى، فيما هو من خصائصه سبحانه، فادَّعوا علم ما لم يعلموا، وخاضوا في أمور الغيب التي لا يعلمها إلا هو، وذلك من خلال الشعوذة والكهانة، أو ما يسمى: مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، أو الخوض فيما يتعلق بمستقبل الأبراج وقراءتها، أو نحو ذلك من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (الطور:38) {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور:41-43).
معاشر المؤمنين: إن التوحيد الخالص هو أفضل طلبة، وأعظم رغبة، وأعلى رتبة، ما شُيد ملك إلا على دعائمه، ولا زال إلا على طواسمه، ما عزت دولةٌ إلا بانتشاره وحمايته والدعوة إليه، ولا زالت إلا باندثاره وخذلان أهله، ويا ويح من تعلَّق بغير الله أو رجا غيره، يشرب الموحدون صفواً، ويشرب هو كدراً آسناً، دعوا هم رباً واحداً، ودعا هو ألف رب: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (يوسف:39-40).
أيها المؤمنون: في الحج إلى الكعبة المشرفة تتجلى نعمة الأمن وحكمة الأمان، من خلال النهج الذي شرعه الله في عرصات مكة والحرم، وذلك متمثل في حقن الدماء، وإلقاء السلاح، والأمن على الأرواح والممتلكات، بل وحتى من القول البذيء، واللفظ الفاحش {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة:197).
عباد الله: الأمن والأمان عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات وإن اختلفت مشاربها، فالمجتمع إذا آمن أمن، وإذا أمن نما، والثمرة الحاصلة: أمنٌ وإيمانٌ ونماء، فلا أمن بلا إيمان، ولا نمو بغير أمن {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82).
وأظلم الظلم هو الشرك بالله، فلا يجتمع -إذن- ظلمٌ وأمن؛ ظلم النفس، وظلم الهوى، وظلم الحجارة والأرباب والأحبار والرهبان، ومتى بقيت من ذلك بقية فالله أغنى الشركاء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة صنم الظلم، قال سهل بن عبد الله: "حرام على قلب أن يدخله النور، وفيه شيء مما يكرهه الله".
إن الأمن والأمان المنبثقين من تطبيق شرع الله على وجه الأرض، ليتيح لقلب المسلم النير في كل قطر ومصر أن يعبد الله في هدوءٍ واستقامة، بل قد يتغير به مجرى تاريخ المجتمع بأسره، في الحديث: (من أصبح آمناً في سربه، معافاً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني.
أيها المسلمون! في الحج إلى بيت الله الحرام تتجلى صُور عظمى، وسمة أجلى، هي جزء أساس لا يتجزأ في صحة العمل وقبوله بعد إخلاصه للباري جل وعلا، تلكم هي المتابعة لما كان عليه صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك: هو أن مناسك الحج شُرِعت على هيئة واجبات وأركان، وسنن في الأقوال والأعمال، ندب إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم بفعله، فقد قال: (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم.
وإن من غربة الدين أن تلتصق به المحدثات، ألا وإن البدع المحدثة فيها مع سوء الظن بصاحب الرسالة تشويهٌ لجمال الدين، وطمس لمعالم السنن، وحيلولةٌ بين الناس وبين دينه الصحيح.
والحكم الفصل في ذلك هو الوقوف عند السنن، وردُّ الأمور إلى حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153).
جاء في الحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ) رواه الشيخان، وفي رواية لـمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ويقول سفيان الثوري: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} (المائدة:3).
أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وهدايته وامتنانه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه.
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
معاشر المسلمين: كونوا على علمٍ أنكم قاب قوسين أو أدنى من حلول شهرٍ معظم، الناس فيه صنفان: إما قاصدٌ بيت الله الحرام حاجاً أو معتمراً، يتعرض لنفحات خالقه ومولاه، وإما قاعدٌ لم يُقدَّر له بلوغ رحاب البيت العتيق، لعرضٍ أو مرض، لم يكونا مانعين من أن يتلَّقى عشر ذي الحجة، فيعمل فيها أعمالاً هي أفضل من الجهاد في سبيل الله، ورد في الحديث: (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -أيام عشر ذي الحجة- فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء). رواه أبو داود.
قال ابن كثير: "وبالجملة فهذه العشر قيل فيها: إنها أفضل أيام السنة، كما نطق بذلك الحديث، وفضَّلها الكثير على عشر رمضان الأخيرة... وتمتاز باختصاصها بأداء فرض الحج فيها".
والحاصل -عباد الله- أن النصوص دلت على أن كل عملٍ صالح يقع في هذه الأيام، فهو أحب إلى الله تعالى من العمل نفسه إذا وقع في غيرها، كما أن الأعمال في هذه العشر تتنوع إلى الصوم والصدقة والتوبة النصوح، والإكثار من التسبيح والتحميد والتهليل، كما أن فيها الأضحية والحج، في الحديث: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فاكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) رواه أحمد.
وثبت عند أبي داود (أن النبي كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر).كما أن السنة قد دلَّت على أن من أراد أن يُضحِّي، وقد دخلت عليه العشر فلا يأخذنَّ من شعره أو أظفاره أو بشرته شيئاً حتى يُضحِّي، لورود الخبر بذلك عند مسلم.
ألا وصلُّوا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
المقالات

