الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

طريق السعادة

طريق السعادة

طريق السعادة

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.. ثم أما بعد: أيها المسلمون:

السعادة مطلبٌ عظيم وغايةٌ يبحث عنها الناس جميعاً، المؤمن والكافر، والكبير والصغير، كلٌّ يبحث عنها بطريقته، ويتمنى الوصول إليها، ولكنّ العجب أن كثيرين يبحثون عنها في غير موضعها، فيطلبونها بين لهوٍ وشهوةٍ، أو مالٍ ومنصب، فلا يجدون إلا التعب والضيق، لأنهم لم يعرفوا الطريق الصحيح إلى السعادة الحقيقية.
فمن الناس من يظن أن السعادة في جمع المال، والإسلام لا يُزهد في المال، ولا يُقلل من شأنه، فهو عصب الحياة، ونعمة من نعم الله إذا اكتُسب من حلال، وأُنْفِق في حلال، وأُدِّي حق الله فيه بالزكاة والإحسان وصلة الأرحام، وما أعظم المال إذا كان في يد الصالحين، يعمرون به الدنيا وينفقونه في سبيل الله وطاعته، وفي التوسعة على الأهل والفقراء واليتامى والمساكين، فحينها يكون المال نعمةً تُرفع بها الدرجات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر ) وذكر منهم (وعبدٍ آتاه الله مالاً، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصل فيه رحمَه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل) رواه الترمذي.
والواقع يشهد أن السعادة لا تُقاس بكثرة المال، فكم من غنيٍّ ضاق صدره، وكم من فقيرٍ مطمئنٍّ قلبه، وقد يكون المال سبباً في الشقاء إن أُنفق وأهدر في معصية الله.. وها هو القرآن الكريم يضرب لنا مثلاً لقارون، الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فاغترّ ونسي الله عز وجل المُنعِم، وقال في كبرٍ وعُجب: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(القصص:78) ـ وكما يقول البعض: ما عندي وما أملكه هو نتيجة وثمرة عملي وتعبي، وحكمتي وإدارتي ـ، فماذا كانت النتيجة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}(القصص:81).
وليس هذا المعنى ببعيدٍ عن واقعنا اليوم، فكم من مجتمعاتٍ تفيضُ مالاً ورغداً، لكنها تعيشُ فراغاً إيمانيا وروحياً قاتلاً، حتى كثرت فيها حالات الانتحار، وكم سمعنا عن أثرياء ضاقت بهم الحياة رغم ما يملكون، فليعلم المؤمن أن المال إن لم يُستعمل في طاعة الله صار بلاءً ووبالاً على صاحبه.

وكما يظن بعض الناس أن السعادة في المال، يظن آخرون أن السعادة في المنصب، وهذا أيضاً وهْم، فالمنصب يكون باباً من أبواب السعادة في الدنيا والآخرة إذا رآه صاحبه أمانةً ومسؤولية، لا مغنماً ولا مصلحة، فمن نظر إلى منصبه على أنه تكليفٌ لا تشريف، وراقب الله فيه، وذلَّلَ للناس العقبات، وفكَّ ضيق المُعْسِر، سعد في دنياه وأُجر في أُخراه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه لما طلب الإمارة: (يا أبا ذر إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا) رواه مسلم. وأما من جعل المنصب غايةً يتسلّق لها وبها، لا وسيلةً لطاعة الخالق وخدمة الخَلق، فقد خسر السعادة، وشقي في دنياه وأخراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وهو غاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجَنَّةَ) رواه مسلم.

وكما يتوهم بعض الناس أن السعادة في المال أو المنصب، يتوهم آخرون أن السعادة في الشهرة والظهور، وأنها طريق المجد والراحة، وما علموا أن هذه الشهرة كثيراً ما تكون باباً من أبواب التعب والهموم، فكم من أناسٍ لاحقتهم عدسات الكاميرات، وتناقلت أخبارَهم وسائلُ الإعلام، وظنَّ الناس أنهم أسعدُ الخلق، وهم في الحقيقة يعيشون ضيقاً وقلقاً وشقاءً، حتى إذا منَّ الله على بعضهم بالتوبة، أو صارحوا الناس بواقعهم، قالوا بصدق: "ما ذقنا طعم السعادة قطّ"، فليست السعادة ـ في الأضواء الزائفة الزائلة، ولا في التصفيق والظهور، ولكنها في صدق العبودية لله وطاعته، وفي طمأنينة القلب بذكر الله سبحانه، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28).

عباد الله: ومِن الناس أيضا مَن يظن أن السعادة في الانسلاخ من الهوية أو في تقليد الغرب في حياتهم ومظهرهم وسلوكهم، زاعمين ومتوهمين أن طريق السعادة لا يكون إلا باتباع نهجهم والسير في فلكهم، كلا والله! فكم من أبناء الغرب يملكون وسائل الراحة والترف، ومع ذلك يعيشون فراغاً قاتلاً، وضيقاً نفسياً مدمراً، ومَنْ تأمل أحوالهم أو اطّلع على دراساتهم، أدرك حجم المآسي التي يعانونها من اكتئابٍ وانتحارٍ وأمراضٍ نفسيةٍ، على الرغم من وفرة المال والتقنيات الحديثة، لأنهم أعطوا الجسد كل ما يشتهي من متعٍ وشهوات، لكنهم حرموا الروح غذاءها ودواءها، فبقيت أرواحهم تائهة تبحث عن السكينة فلا تجدها، ذلك لأن الروح لا تُقاس بالجرام، ولا تُعالَج في مختبر، ولا تُروى بشهوات الدنيا، إنما سعادتها في طاعة الله، ودواؤها في اتباع هداه، كما قال سبحانه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}(طه:124:123)..

ومِن الشواهد الواقعية الدالة على أن السعادة ليست في المال ولا في الجاه، ولا في المنصب والمتع المادية الحسية، ما يرويه أحد الدعاة ـ حفظه الله ـ أنه كان في أحد المراكز الإسلامية بمدينة لوس أنجلوس، فدخل عليهم رجلٌ أمريكي يريد أن يُسلِم، فسألوه عن سبب إسلامه، فقال: أنا رجل أملك من المال والشركات ما لا يُحصى، ومع ذلك ما ذقتُ طعم السعادة يوماً، حتى فكرتُ في الانتحار أكثر من مرة، لكن في إحدى شركاتي موظفٌ مسلم، ما دخلتُ عليه يوماً إلا رأيتُ البسمة على وجهه والطمأنينة في قلبه، فتعجبتُ وقلتُ له: ما سرك وسبب سعادتك؟ فقال: لأنني مسلم، ربّي علّمني أن السعادة في التمسك بدينه وطاعته، وعلمني نبيي صلى الله عليه وسلم أن الطمأنينة والأمن والأمان والسعادة في الرضا بقضاء الله، وفي الصبر والشكر، فقال صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) رواه مسلم، فقال الرجل الأمريكي: وهل لو أسلمتُ أجد هذه السعادة التي تتحدث عنها؟ قال له ذلك الموظف المسلم: نعم، فذهب به إلى المركز الإسلامي، ليعلن إسلامه، وبمجرد ما نطق لسانه بالشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله"، حتى انفجر باكياً بكاءً طويلاً، فلما سُئل عن سبب بكائه قال:أشعر الآن بسعادة في قلبي ما ذقتُها في حياتي كلها..

نعم يا عباد الله، إن السعادة الحقيقية في الإسلام، ووالله الذي لا إله إلا هو، لا سعادة إلا بالإسلام، وأن تعيش بالإسلام وعلى هديه وفي ظله، فالإسلام هو الذي حقق السعادة لأهله وأتباعه حين جعلوه منهج حياة، وحين طبقوه في واقعهم العملي، فسعدوا به وسعد به كل من عاش تحت مظلة عدله ورحمته من يهود أو نصارى، والتاريخ عند المنصفين شاهد على ذلك..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: أيها المسلمون:

السعادة المنشودة التي يبحث عنها كل إنسان لا تتحقق بالمال، أو المنصب، أو الشهرة، أو الحياة المادية، بل بالإيمان والعمل الصالح، والاستقامة على طريق الله، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}(النحل:97). والإيمان بالله ليس مجرد قول باللسان، بل تصديق بالقلب وعمل بالجوارح، والالتزام بأوامره والانتهاء عما نهى، واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران:31).
السعادة المنشودة في الإيمان بالقضاء والقدر، والعلم واليقين أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وما أصابنا لم يكن ليخطئنا، فنصبر ونشكر، ونطمئن ونرضى، وهذا من أركان الإيمان وأسباب السعادة.
ومن أسباب السعادة التي نبحث عنها جميعاً: الإحسان إلى الناس ومساعدة الفقراء والضعفاء، وتفريج كربات الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيه) رواه مسلم.
فهذه بعض الأسباب التي تحقق للمؤمن سعادة الدنيا، وهي الطريق إلى السعادة الحقيقية في الآخرة، حيث التمتع بجنة الله ورضوانه، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} (هود:108).

وختاما، عباد الله: اتقوا الله في سرّكم وعلانيّتكم، وبرّوا والدَيكم، وحافظوا على صلاتكم، واعتنوا ببيوتكم وأولادكم وأسرّكم، وساعدوا الفقراء والمحتاجين، وكونوا قدوة صالحة في حياتكم ومعاملاتكم، فإن ذلك سبيل السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة