الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تعدد القراءات القرآنية

تعدد القراءات القرآنية

تعدد القراءات القرآنية

ذهب فريق من المستشرقين إلى أن اختلاف القراءات القرآنية مرجعه إلى تجرد المصاحف من النقط والحركات التشكيلية التي تُضْبَط بها الكلمات؛ يقول المستشرق جولد زيهر: "وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة، تبعاً لاختلاف النقاط، واختلاف الحركات، وهذا يؤدي بدوره إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وإلى اختلاف دلالتها...".

وقد تلقف هذه الشبه بعض المنبهرين بالغرب، والسائرين على دربه، من غير أن يكلفوا أنفسهم مشقة الرجوع إلى أصحاب الشأن في هذا العلم، لمعرفة حقيقة الأمر في هذه المسألة.

ولبيان زيف هذه الشبهة وتهافتها نقول: إن هذه الشبهة قائمة في أساسها على مغالطة واضحة، ومخالفة للواقع، وبيان ذلك ما قرره أصحاب الاختصاص من أن الرواية والتلقي والسماع هي الأصل الذي تثبت به القراءة، ويثبت به رسمها، وليس العكس، فالقراءات بإجماع المسلمين لم تثبت بالاجتهاد والرأي، بل تثبت بالسماع والتلقي، هذا أولاً.

ثم من المقرر أيضًا أنه لم يكن للرسم العثماني دور في تعدد وجوه القراءات وتنوعها، بل كان الرسم العثماني وسيلة لحفظ القراءات الثابتة، إذ إن تلك الوجوه المختلفة لم يكن مرجعها إلا إلى سبب واحد، وهو التلقي عن رسول الخلق أجمعين.

وقد نبَّه علماء هذه الأمة منذ وقت مبكر على هذه الحقيقة، وأصَّلوا في ذلك أصلاًَ أجمعوا عليه، فقالوا: إن الأصل في القراءات إنما هو التلقي والسماع من الآخر للأول.

فهذا ابن تيمية رحمه الله يقول: "سبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع، وتسويغه ذلك لهم، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع".

وهذا ابن الجزري يؤكد على أن "معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم، إنما هو من حيث أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراءً به، وملازمة له، وميلاً إليه، لا غير ذلك.." إلى أن يقول: "وهذه الإضافة إضافة اختيار ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد".

ومما يبين بطلان هذه الشبهة وتهافتها، أنه لو كان خلو المصاحف من الشكل والنقاط هو السبب في تنوع القراءات واختلافها لكانت كل قراءة يحتملها رسم المصحف صحيحة معتبرة قرآنًا، وواقع الأمر ليس كذلك، إذ إن القراءات القرآنية من جهة قبولها تنقسم إلى أقسام؛ فهناك القراءات مقبولة، وهناك القراءات المردودة، وثمَّت قراءات متوقف فيها، على تفصيل في ذلك للعلماء؛ وهذا التقسيم الذي اعتمده أرباب هذا العلم يدلل على أن أي قراءة لا يُعتد بها، ولا تعتبر قرآنًا إلا إذا كانت قائمة على التلقي والسماع الثابت والصحيح.

على أن مما يؤكد اعتماد القراءات على النقل والسماع - إضافة لما تقدم - وجود ألفاظ في القرآن تُقرأ بخلاف الرسم القرآني؛ من ذلك مثلاً كلمة {الصلاة} حيث جاء رسمها في المصحف (الصلوة) وكذلك {الزكاة} فقد رُسمت في المصحف (الزكوة) وهذا كثير معلوم لقارئ كتاب الله.

ثم إن في القرآن الكريم كلمات تكررت في مواضع متعددة، ورُسمت برسم واحد، لكنها في بعض المواضع وردت فيها القراءات التي يحتملها رسمها، فاختلف فيها القراء حسب ما تلقاه كل واحد منهم، وفي بعض المواضع اتفق الجميع على قراءتها بوجه واحد، لثبوت ذلك بالنقل والسماع، دون ثبوت غيره، وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من أن الأمر مرده إلى التلقي والسماع لا غير.

وأخيرًا، فإن من المغالطات التي وقع فيها أصحاب هذه الشبهة من المستشرقين، ومن دار في فلكهم، توهمهم أن الأمة الإسلامية اعتمدت في نقل كتابها على مثل ما اعتمد عليه غيرها من الأمم في النقل، وشتان ما هما، إذ إن نقل المسلمين لكتابهم ودينهم، كان نقلاً موثَّقاً مضبوطًا، وخاضعاً لمعايير منضبطة وواضحة، يقاس بها صحة الخبر، ويقيَّم على وَفْقِها وسَنَنِهَا، فليس كل نقل عند هذه الأمة مقبول، وليس كل من قال -خلا الله ورسوله- فقوله لا مرد له، ولا معقب لحكمه؛ بل إن الأمر خاضع لمنهج القبول والرد؛ وموزون بميزان الرجال، تعديلاً وتجريحًا، وقبولاً ورفضًا؛ ذاك المنهج الذي كان في الواقع مما امتازت به هذه الأمة على غيرها من الأمم، والذي به حفظت كتاب ربها، وبه نقلت سنة نبيها، ومن خلاله عرفت معالم دينها، بحيث استقام لها الأمر فيما لم يستقم لغيرها من الأمم.

وعلى ضوء ما سبق وتقدم يظهر لنا تهافت هذه الشبهة وسقوطها، ويتضح لنا كذلك حقيقة الأمر في هذه المسألة، وهو أن القراءات القرآنية الثابتة لا شك فيها، وأن سبب الاختلاف في القراءات والتنوع فيها، مرده إلى اختلاف النقل والسماع ليس إلا.

ونلخص الرد على هذه الشبهة فنقول: إن تعدد القراءات القرآنية لم يكن مرده إلى تجرد المصاحف من الشكل والنقط للحروف، بل مرد الأمر في ذلك إلى التلقي والسماع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأمر المعول عليه بداية ونهاية في اختلاف القراءات القرآنية، ولا يُعول على أمر آخر سواه، فالأمر في المحصلة مرجعه إلى السنة والاتباع، لا إلى الرأي والابتداع، وصدق الله تعالى إذ يقول: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} (العنكبوت:49).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة