الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الدعاة .. والحرص على هداية الخلق

الدعاة .. والحرص على هداية الخلق

"إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيه" هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه البخاري ومسلم رحمهما الله . وفي رواية: "أنا آخذ بحجزكم عن النار : هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها" صححها الألباني في صحيح الجامع.

لم تكن هذه مجرد كلمات لوصف حال، وإنما زفرات حري، خرجت من أصدق قلب، لبيان أشرف مهنة ومقصد عرفه الوجود.
إنها صورة الدعاة إلى الله حين يرون الناس يقتحمون النار بانصرافهم عن الله وبعدهم عنه، فيتحركون ليمنعوهم عنها ويحجزوهم منها، ضنا منهم على هذه النفوس أن تذهب إلى النار.

ولا يمكن لدعاة الحلق أن يحققوا ذلك إلا بالحركة إلى الخلق، ودعوتهم حيث كانوا، وغشيان مجالسهم، وحضور مجتمعاتهم، والذهاب إليهم حيث كانوا، لا بالجلوس والخلوة وانتظار مجيء الناس إليهم، فإن أئمة الدعاة من السلف الصالح كانوا يسيحون في الأرض لنشر الدعوة وتبليغها، يبادؤون الناس بالكلام ويحتكون بهم احتكاكًا هادفًا ولا ينتظرن مجيء الناس إليهم ليسألوهم.

إن هذه الحركة لدعوة الخلق لا يشمر لها العبد إلا إذا استشعر ابتعاث الله له ـ هو بعينه ـ لإنقاذ الناس، وهداية قلوبهم، وإنارة بصائرهم، كما قال ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". فاستمع إليه وهو يقول: "ابتعثنا لنخرج" وانظر إلى ما فيها من إحساس بعظم الأمانة على عاتقه وعواتق أصحابه وشعورهم بأنهم هم المكلفون بها دون غيرهم.

ومن دون أن يستشعر الدعاة هذه المسؤولية فالأصل الركود والخمود والعزلة المذمومة. يظن الواحد أنه ينأى بنفسه عن المنكر وهو واقع فيه.. يقول الغزالي رحمه الله: "اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف. فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد (المدن)، فكيف في القرى والبوادي".

الدعاة دلالون على الله
إن المسلم الحق والداعية الصدق هو الذي يدل الخلق على الله وهي أعظم وظائف الأنبياء، والدعاة ورثتهم فيها، وهذه الدلالة إنما تكون بالتقدم لإمامة الناس وقيادتهم: (واجعلنا للمتقين إمامًا)[الفرقان:74]، و(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)[السجدة: 24]. فالمختفي عن الخلق لا يمكن أن يكون لهم إمامًا، وغير المخالط للمدعوين كيف يكون على الله دلالا، إنما الدلالة والقيادة بالمعرفة ثم البلاغ "فمن كملت معرفته بالله صار دالا عليه، يصير شبكة يصطاد بها الناس من بحر الدنيا".

يقول ابن الجوزي رحمه الله لراغبي القرب من ربهم: "ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد لعلمهم أن ذلك أثر عند حبيبهم، وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر"؟!

وهذا نوح يقول: (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا)[نوح:5 ـ9]... فهل كان ينتظرهم ليأتوه، أم كان يخرج لمجالسهم ومجامعهم وأسواقهم، بل وبيوتهم فيدعوهم إلى الله. كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل وكل الأنبياء قبله.

العزلة دفن للنفس
إن العزلة والانفراد والزهد في معاناة العباد، إنما هو في الحقيقة دفن للنفس وقطع للنفع، وهي مباحة إذا لم تمنع من خير كحضور جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض. ومع هذا فإنها كما يصفها ابن الجوزي: "حالة الجبناء فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء".

السلف والنزول إلى الناس:
قال الوزير ابن هبيرة في قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل) وقوله عز وجل: (وجاء رجل من أقصى المدينة) قال: "تأملت ذكر أقصى المدينة فإذا الرجلان جاءا من بعد للأمر بالمعروف ولم يقعدا لبعد الطريق".

فلا يكون المؤمن عامر القلب إلا متحركًا محركا، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسله ليسيحوا في البوادي يبلغون الناس دعوة الحق ويعلمونهم سنة سيد الخلق، كمعاذ وأبي موسى وغيرهم.

وقد تعلم السلف هذا وفقهوه وعلّموه الناس وحثوهم عليه.. فهذا التابعي الجليل عامر الشعبي يخبر أن "رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: "ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا".

ومازال أهل الفضل يعملون بهذا ويتعرضون لهداية العباد، ويبذلون الجهد في نقل الدين إليهم، ونشر العلم بينهم، نصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين. فهذا مالك بن دينار يقول: "لو وجدت أعوانًا، لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس النارَ .. النارَ".
وعن شجاع بن الوليد قال: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا".
وكان الإمام الزهري ينزل إلى الأعراب فيعلمهم.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إني رأيت وقوف المــاء يفسـده.. ... ..إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأُسد لولا فراق الأرض ما افترست... ..والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة.. ... .. لمـلها الناس من عجم ومن عرب

وقال آخر:
كن مشعلا في جنح ليـل حالك.. ... ..يهـدئ الأنام إلى الهدى ويبين
وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً.. ... .. واعمل على تحريك ما هو ساكن
وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهـم.. ... .. أولى الورى بالنصح منك وأقمن
والله يأمــر بالعشـيرة أولاً .. ... .. والأمر من بعد العشيرة هــين

فهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لابد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم.. وليس القعود والتمني من طرق الوصول، فافقه سير سلفك وقلدهم تصل وإلا فراوح مكانك فلن تبرحه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة