رسالة الداعية أسمى رسالة، وأي عمل ـ مهما بلغت قيمته ـ لا يرقى إلى مستوى عمل الدعوة، وهداية الناس إلى الله .
ومما يؤكد على هذا المعنى أن الله تعالى حين تحدث عن الدعوة والقيام بها صدَّرها بأسلوب الاستفهام المفيد للنفي، فقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33)، أي: لا أحد أحسن ممن يفعل ذلك .
ومعلوم أن عمل الداعية ليس مجرد الكلام والوعظ، فما أيسر أن يعتاد الإنسان ـ بكثرة المران ـ على الألفاظ الجذلة، والعبارات الرصينة، بحيث يطلب منه الحديث في أي موطن، فيفيض به كأحسن ما يكون .
رسالة الإسلام
إن رسالة الداعية في الحقيقة هي رسالة الإسلام، بكل ما تحتويه هذه الكلمة من شمول وعموم .
فإن قلنا إن الإسلام يهتم بالفرد: تربية لنفسه، وتهذيبـًا لسلوكه، وتوطيدًا لعلاقته بربه، كان الداعية هو القائم ببيان هذه الحقائق، والأخذ بيد الناس إليها .
وإذا قلنا إن الإسلام ينظم شؤون المجتمع، ابتداء بالأسرة، وانتهاء بالأمم فيما بينها وبين بعضها، كان الداعية ـ أيضـًا ـ هو صاحب الدعوة لهذا الشمول، وهو القوى المحركة التي تحث الناس على أن تأخذ هذه المبادئ صورتها العملية في واقع المجتمع .
وباختصار فإن رسالة الداعية هي رسالة الخير للفرد والمجموع على السواء .
ولا يتأتى للداعية القيام بهذا الواجب الضخم حتى يكون ـ في نفسه وأهله ـ أحرص الناس عليه، وأقوى الناس التزامـًا به. وصدق الله إذ يقول: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت) (الشورى/15)
يقول ابن جماعة الكناني : " إن العلماء هم القدوة، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله تعالى على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدى بهديهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به " .
ويقول الشاعر محمود بن الحسن الوراق :
إذا أنت لم ينفعـك علمك لم تجد...لعلمك مخلوقـًا من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذي قد حملتـه ... وجدت له من يجتنيه ويحمـله
الدعوة بالصمت والسمت
هكذا تبدو أهمية الجانب الخلقي في حياة الدعاة، ذلك الجانب الذي بدونه تصبح الدعوة قليلة الفائدة، ضعيفة الأثر.
ولمزيد التأكيد على أهمية هذا الجانب في حياة الدعاة نسوق هذه الحقائق :
1- إن تعلق الناس بأحوال الداعية أقوى من تعلقهم بكلامه، بل إن الداعية قد لا يتكلم كثيرًا، ولكن أخلاقه وسيرته الحسنة تجعل الدعوة تسري بأقل مجهود يُبذل .
يقول لقمان الحكيم: "إن العالم يدعو الناس إلى علمه بالصمت والوقار" .
وقيل: "من لم تهذبك رؤيته، فاعلم أنه غير مهذب، ومن لم ينعشك عبيره على بُعد فاعلم أنه لا طيب فيه، ولا تتكلف لشمه".
وقال الإمام الشافعي: "من وعظ أخاه بفعله كان هاديـًا".
وقيل أيضـًا: "من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه".
فبهداهم اقتده
هذا ويزخر التاريخ بالكثير من القدوات الصالحة ـ لأفراد وجماعات ـ تدل بشكل قطعي على تأثير الداعية بالقدوة فيمن حوله بصورة أبلغ من الكلام .
قال ابن وهب: "ما تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه".
وقال يونس بن عبيد: "كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله، ولم يسمع كلامه".
هذا على مستوى الأفراد . وكذلك على مستوى المجموع رأينا القدوة الصالحة قد راعت نظر كثير من الأمم في مطلع الدعوة من خلال سلوك السلف الصالح، مما نتج عنه إسلام الكثيرين. يقول الإمام مالك: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام قالوا: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا".
2- إن تخلق الداعية بالأخلاق الإسلامية التي يدعو الناس إليها يجعل في دعوته حرارة وحيوية؛ لأنها تخرج من قلب منفعل بها، ويعبر عنها لسان صادق اللهجة، وبذا تتأثر بكلامه القلوب، وتنفعل بصدق حديثه النفوس، بعكس ما لو عرى عن هذه الأخلاق، وجاء يدعو الناس إليها، فإن دعوته ـ مهما كان فصيح اللسان، بليغ العبارات ـ لا تعدو أن تكون حرثـًا في ماء، أو نفخـًا في رماد، وبذا يزول أثرها، ولا يدوم نفعها .
يقول مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا".
وقال شهر بن حوشب: "إذا حدث الرجل القوم، فإن حديثه يقع في قلوبهم موقعه من قلبه"
وسئل الحسن البصري رحمه الله: ما بالنا نعظ الناس فنبكيهم، وأنت تعظ الناس فتبكي؟ فقال : ليست النائحة كالثكلى.
3- إن صلاح الفرد في ذاته دافعه ما يتمسك به من أخلاق .
يقول أبو حامد الغزالي : " كل من أراد النجاة لا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة " .
ويقول أحمد شوقي :
صلاح أمرك للأخلاق مرجعـه فقوِّم النفس بالأخلاق تستقـم
ونستنتج من هذه المقدمة أن صلاح الداعية في خلقه طريق إلى إصلاح نفسه، وإن فساده في خلقه طريق إلى فساده في كله . فلو حدث ـ لا قدر الله ـ أن تولت فئة من الدعاة مهمة الإصلاح وهي تفتقد الأخلاق فإنها ـ والحال هكذا ـ سيفشو فسادها، ويعم خطرها ويستبيح الناس الحرمات وهم يجدون من يبرر أخطاءهم، ويبارك فيها خطواتهم. ولذا يعظم خطر علماء السوء في المجتمع .
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون " .
وجاء في مأثور الحكم: "زلة العالم كالسفينة، تغرق ويغرق معها خلق كثير".
وقال معاذ رحمه الله: "احذروا زلّة العالم؛ لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعونه على زلته " .
وقال الشاعر :
وكنا نستطب إذا مرضنا فصار هلاكنا بيد الطبيب
وقال غيره :
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟
فمن نصَّب نفسه للناس إمامـًا فليبدأ بتهذيب نفسه قبل تهذيب غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم " . وقال الفراء : " أدب النفس ثم أدب الدرس " .
وقال الليث وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئـًا : " أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم " .
وعن مالك بن أنس قال : قال ابن سيرين : " كانوا يتعلمون الهدى، كما يتعلمون العلم " .
قال : وبعث ابن سيرين رجلاً فنظر كيف هديُ القاسم وحاله " .
ونخلص من هذه النقاط الثلاث إلى أهمية الأخلاق في حياة الداعية، فهي حجر الزاوية في نجاحه في دعوته، وبقدر اهتمامه بها، وحرصه عليها، يكون توفيق الله له .
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب}.